[ ص: 287 ]   14 
ثم دخلت سنة أربع عشرة . 
ذكر ابتداء أمر القادسية   
لما اجتمع الناس إلى  عمر  خرج من المدينة  حتى نزل على ماء يدعى صرارا  ، فعسكر به ، ولا يدري الناس ما يريد أيسير أم يقيم ، وكانوا إذا أرادوا أن يسألوه عن شيء رموه  بعثمان  أو   بعبد الرحمن بن عوف  ، فإن لم يقدر هذان على عمل شيء مما يريد ثلثوا   بالعباس بن عبد المطلب  ، فسأله  عثمان  عن سبب حركته ، فأحضر الناس فأعلمهم الخبر واستشارهم في المسير إلى العراق  ، فقال العامة : سر وسر بنا معك . فدخل معهم في رأيهم وقال : اغدوا واستعدوا ، فإني سائر إلا أن يجيء رأي هو أمثل من هذا . ثم جمع وجوه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرسل إلى  علي  ، وكان استخلفه على المدينة  ، فأتاه ، وإلى  طلحة  ، وكان على المقدمة ، فرجع إليه ، وإلى  الزبير  وعبد الرحمن  ، وكانا على المجنبتين ، فحضرا ، ثم استشارهم فاجتمعوا على أن يبعث رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرميه بالجنود ، فإن كان الذي يشتهي فهو الفتح ، وإلا أعاد رجلا وبعث آخر ، ففي ذلك غيظ العدو 
فجمع  عمر  الناس وقال لهم : إني كنت عزمت على المسير حتى صرفني ذوو الرأي منكم ، وقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلا ، فأشيروا علي برجل . 
 [ ص: 288 ] وكان   سعد بن أبي وقاص  على صدقات هوازن  ، فكتب إليه  عمر  بانتخاب ذوي الرأي والنجدة والسلاح ، فجاءه كتاب  سعد  ،  وعمر  يستشير فيمن يبعثه ، يقول : قد انتخبت لك ألف فارس كلهم له نجدة ورأي وصاحب حيطة يحوط حريم قومه ، إليهم انتهت أحسابهم ورأيهم . فلما وصل كتابه قالوا  لعمر     : قد وجدته قال : من هو ؟ قالوا : الأسد عاديا  سعد بن مالك  ، فانتهى إلى قولهم وأحضره ، وأمره على حرب العراق  ووصاه وقال : لا يغرنك من الله أن قيل : خال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن ، وليس بين الله وبين أحد نسب إلا طاعته ، فالناس في ذات الله سواء ، الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ، ويدركون ما عنده بالطاعة ، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلزمه فالزمه . ووصاه بالصبر وسرحه فيمن اجتمع إليه من نفر المسلمين ، وهم أربعة آلاف ، فيهم  حميضة بن النعمان بن حميضة  على بارق ،  وعمرو بن معدي كرب  ،  وأبو سبرة بن ذؤيب  على مذحج ،  ويزيد بن الحارث الصدائي  على صداء ،  وحبيب  ومسلية  وبشر بن عبد الله الهلالي  في قيس عيلان 
وخرج إليهم  عمر  ، فمر بفتية من السكون مع  حصين بن نمير   ومعاوية بن حديج  دلم سباط ، فأعرض عنهم ، فقيل له : ما لك وهؤلاء ؟ فقال : ما مر بي قوم من العرب أكره إلي منهم . ثم أمضاهم فكان بعد يذكرهم بالكراهة ، فكان منهم  سودان بن حمران  قتل  عثمان  ،  وابن ملجم  قتل  عليا  ،   ومعاوية بن حديج  جرد السيف في المسلمين ، يظهر الأخذ بثأر  عثمان  ،  وحصين بن نمير  كان أشد الناس في قتال  علي     . 
ثم إن  عمر  أخذ بوصيتهم وبعظتهم ثم سيرهم ، وأمد  عمر  سعدا  بعد خروجه بألفي يماني نجدي ، وكان  المثنى بن حارثة  في ثمانية آلاف ، وسار  سعد  والمثنى  ينتظر قدومه ، فمات  المثنى  قبل قدوم  سعد  من جراحة انتفضت عليه ، واستخلف على الناس  بشير بن الخصاصية  وسعد  يومئذ بزرود  ، وقد اجتمع معه ثمانية آلاف ، وأمر  عمر  بني أسد  أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن  والبسيطة  ، فنزلوا في ثلاثة آلاف ، وسار  سعد  إلى   [ ص: 289 ] شراف  فنزلها ، ولحقه بها   الأشعب بن قيس  في ألف وسبعمائة من أهل اليمن  ، فكان جميع من شهد القادسية  بضعة وثلاثين ألفا ، وجميع من قسم عليه فيئها نحو من ثلاثين ألفا . 
ولم يكن أحد أجرأ على أهل فارس  من ربيعة  ، فكان المسلمون يسمونهم ربيعة  الأسد إلى ربيعة  الفرس ، ولم يدع  عمر  ذا رأي ولا شرف ولا خطيبا ولا شاعرا ولا وجيها من وجوه الناس إلا سيره إلى  سعد     . 
وجمع  سعد  من كان بالعراق  من المسلمين من عسكر  المثنى  ، فاجتمع بشراف  ، فعبأهم وأمر الأمراء ، وعرف على كل عشرة عريفا ، وجعل على الرايات رجالا من أهل السابقة ، وولى الحروب رجالا على ساقتها ومقدمتها ورجلها وطلائعها ومجنباتها ، ولم يفصل إلا بكتاب  عمر  ، فجعل على المقدمة  زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الحوية  ، فانتهى إلى العذيب ، وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل على الميمنة  عبد الله بن المعتم  ، وكان من الصحابة أيضا ، واستعمل على الميسرة  شرحبيل بن السمط الكندي  ، وجعل خليفته  خالد بن عرفطة  حليف بني عبد شمس  ، وجعل  عاصم بن عمرو التميمي  على الساقة ،  وسواد بن مالك التميمي  على الطلائع ،  وسلمان بن ربيعة الباهلي  على المجردة ، وعلى الرجالة  حمال بن مالك الأسدي  ، وعلى الركبان  عبد الله بن ذي السهمين الخثعمي  ، وجعل  عمر  على القضاء بينهم  عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي  ، وعلى قسمة الفيء أيضا ، وجعل رائدهم وداعيتهم   سلمان الفارسي  ، والكاتب   زياد بن أبيه     . 
وقدم  المعنى بن حارثة الشيباني  وسلمى بنت خصفة  زوج  المثنى  بشراف  ، وكان  المعنى  بعد موت أخيه قد سار إلى  قابوس بن قابوس بن المنذر  بالقادسية  ، وكان قد بعثه إليها الفرس  يستنفر العرب ، فسار إليه  المعنى  فقفله فأنامه ومن معه ، ورجع إلى ذي قار  ، وسار إلى  سعد  يعلمه برأي  المثنى  له وللمسلمين ، يأمرهم أن يقاتلوا الفرس  على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب ، ولا يقاتلوهم بعقر دارهم ، فإن يظهر الله   [ ص: 290 ] المسلمين فلهم ما وراءهم ، وإن كانت الأخرى رجعوا إلى فئة ثم يكونوا أعلم بسبيلهم ، وأجرأ على أرضهم ، إلى أن يرد الله الكرة عليهم . فترحم  سعد  ومن معه على  المثنى  ، وجعل  المعنى  على عمله وأوصى بأهل بيته خيرا ، ثم تزوج  سعد  سلمى  زوج  المثنى  ، وكان معه تسعة وتسعون بدريا ، وثلاثمائة وبضعة عشر ممن كانت له صحبة فيما بين بيعة الرضوان  إلى ما فوق ذلك ، وثلاثمائة ممن شهد الفتح ، وسبعمائة من أبناء الصحابة . 
وقدم على  سعد  كتاب  عمر  بمثل رأي  المثنى  ، وكتب  عمر  أيضا إلى  أبي عبيدة  ليصرف أهل العراق  ومن اختار أن يلحق بهم إلى العراق    . وكان للفرس  رابطة بقصر  ابن مقاتل  ، عليها  النعمان بن قبيصة الطائي  ، وهو ابن عم  قبيصة بن إياس  صاحب الحيرة  ، فلما سمع بمجيء  سعد  سأل عنه وعنده  عبد الله بن سنان بن خزيم الأسدي  ، فقيل : رجل من قريش  ، فقال : والله لأحادنه القتال ، فإن قريشا  عبيد من غلب ، والله لا يخرجون من بلادهم إلا بخفين ! فغضب  عبد الله بن سنان  من قوله وأمهله حتى دخل قبته فقتله ، ولحق  بسعد  وأسلم . 
وسار  سعد  من شراف  فنزل العذيب  ، ثم سار حتى نزل القادسية  بين العتيق  والخندق  بحيال القنطرة  ، وقديس  أسفل منها بميل . 
وكتب  عمر  إلى  سعد     : إني ألقي في روعي أنكم إذا لقيتم العدو هزمتموهم ، فمتى لاعب أحد منكم أحدا من العجم بأمان أو بإشارة أو بلسان كان عندهم أمانا - فأجروا له ذلك مجرى الأمان والوفاء ؛ فإن الخطأ بالوفاء بقية ، وإن الخطأ بالغدر هلكة ، وفيها وهنكم وقوة عدوكم ، فلما نزل  زهرة  في المقدمة وأمسى بعث سرية في ثلاثين معروفين بالنجدة ، وأمرهم بالغارة على الحيرة  ، فلما جازوا السيلحين  سمعوا جلبة ، فمكثوا حتى حاذوهم ، وإذا أخت  آزادمرد بن آزاذبه  مرزبان الحيرة  تزف إلى صاحب الصنين ، وهو من أشراف العجم ، فحمل  بكير بن عبد الله الليثي  أمير السرية على  شيرزاد بن آزاذبه  فدق صلبه ، وطارت الخيل على وجوهها ، وأخذوا الأثقال وابنة  آزاذبه  في ثلاثين امرأ من   [ ص: 291 ] الدهاقين ومائة من التوابع ، ومعهم ما لا يدرى قيمته ، فاستاق ذلك ورجع فصبح  سعدا  بعذيب  الهجانات ، فقسم ذلك على المسلمين ، وترك الحريم بالعذيب  ومعها خيل تحوطها ، وأمر عليهم  غالب بن عبد الله الليثي     . 
ونزل  سعد  القادسية  وأقام بها شهرا لم يأته من الفرس  أحد ، فأرسل  سعد  عاصم بن عمرو  إلى ميسان  ، فطلب غنما أو بقرا فلم يقدر عليها ، وتحصن منه من هناك ، فأصاب  عاصم  رجلا بجانب أجمة ، فسأله عن البقر والغنم ، فقال : ما أعلم . فصاح ثور من الأجمة : كذب عدو الله ، ها نحن ! فدخل فاستاق البقر فأتى بها العسكر ، فقسمه  سعد  على الناس ، فأخصبوا أياما ، فبلغ ذلك  الحجاج  في زمانه فأرسل إلى جماعة فسألهم ، فشهدوا أنهم سمعوا ذلك وشاهدوه ، فقال : كذبتم . قالوا : ذلك إن كنت شهدتها وغبنا عنها . قال : صدقتم ، فما كان الناس يقولون في ذلك ؟ قالوا : وإنه يستدل بها على رضى الله وفتح عدونا ، فقال : ما يكون هذا إلا والجمع أبرار أتقياء . قالوا : ما ندري ما أجنت قلوبهم ، فأما ما رأينا فما رأينا قط أزهد في دنيا منهم ، ولا أشد بغضا لها ، ليس فيهم جبان ولا غار ولا غدار . وذلك يوم الأباقر . 
وبث  سعد  الغارات والنهب بين كسكر  والأنبار  ، فحووا من الأطعمة ما استكفوا به زمانا ، وكان بين نزول   خالد بن الوليد  العراق  وبين نزول  سعد  القادسية  والفراغ منها سنتان وشيء ، وكان مقام  سعد  بالقادسية  شهرين وشيئا حتى ظفر . 
فاستغاث أهل السواد إلى  يزدجرد  ، وأعلموه أن العرب قد نزلوا القادسية  ولا يبقى على فعلهم شيء ، وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات  ، ونهبوا الدواب والأطعمة ، وإن أبطأ الغياث أعطيناهم بأيدينا ، وكتب إليه بذلك الذين لهم الضياع بالطف ، وهيجوه على إرسال الجنود ، فأرسل  يزدجرد  إلى  رستم  ، فدخل عليه فقال : إني أريد أن أوجهك في هذا الوجه ، فأنت رجل فارس  اليوم ، وقد ترى ما حل بالفرس  مما لم يأتهم مثله . فأظهر له الإجابة ثم قال له : دعني ، فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضربهم بي ، ولعل الدولة أن تثبت بي إذا لم أحضر الحرب ، فيكون الله قد كفى ، ونكون قد أصبنا المكيدة ، والرأي في الحرب أنفع من بعض الظفر ، والأناة خير من العجلة ، وقتال جيش بعد جيش أمثل من هزيمة بمرة وأشد على عدونا . فأبى عليه ، وأعاد  رستم  كلامه وقال : قد اضطرني تضييع الرأي إلى إعظام نفسي وتزكيتها ، ولو أجد من ذلك بدا لم أتكلم به ، فأنشدك الله   [ ص: 292 ] في نفسك وملكك دعني أقم بعسكري وأسرح  الجالينوس  ، فإن تكن لنا فذلك ، وإلا بعثنا غيره ، حتى إذا لم نجد بدا صبرنا لهم وقد وهناهم ونحن جامون ، فإني لا أزال مرجوا في أهل فارس ما لم أهزم . فأبى إلا أن يسير ، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط  ، وأرسل إلى الملك ليعفيه فأبى . 
وجاءت الأخبار إلى  سعد  بذلك ، فكتب إلى  عمر  ، فكتب إليه  عمر     : لا يكربنك ما يأتيك عنهم ، واستعن بالله وتوكل عليه ، وابعث إليه رجالا من أهل المناظرة والرأي والجلد يدعونه ، فإن الله جاعل دعاءهم توهينا لهم . 
فأرسل  سعد  نفرا ، منهم :   النعمان بن مقرن  ،  وبسر بن أبي رهم  ،  وحملة بن حوية  ،  وحنظلة بن الربيع  ،  وفرات بن حيان  ،  وعدي بن سهيل  ،  وعطارد بن حاجب  ،  والمغيرة بن زرارة بن النباش الأسدي  ، والأشعث  بن قيس  ،  والحارث بن حسان  ،  وعاصم بن عمرو  ،  وعمرو بن معدي كرب  ،   والمغيرة بن شعبة  ،  والمعنى بن حارثة     - إلى  يزدجرد  دعاة ، فخرجوا من العسكر فقدموا على  يزدجرد  ، وطووا  رستم  واستأذنوا على  يزدجرد  فحبسوا ، وأحضر وزراءه  ورستم  معهم ، واستشارهم فيما يصنع ويقوله لهم . 
واجتمع الناس ينظرون إليهم وتحتهم خيول كلها صهال ، وعليهم البرود وبأيديهم السياط ، فأذن لهم ، وأحضر الترجمان وقال له : سلهم ما جاء بكم وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا ؟ أمن أجل أننا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا ؟ فقال   النعمان بن مقرن  لأصحابه : إن شئتم تكلمت عنكم ، ومن شاء آثرته . فقالوا : بل تكلم . فقال : إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر ، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة ، فلم يدع قبيلة إلا وقاربه منها فرقة وتباعد عنه بها فرقة ، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب ، فبدأ بهم ، فدخلوا معه على وجهين : مكره عليه فاغتبط ، وطائع أتاه فازداد ، فعرفنا جميعا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق ، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف ، فنحن ندعوكم إلى ديننا ، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله ، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه : الجزية ، فإن أبيتم فالمناجزة ، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله ، وأقمنا على أن   [ ص: 293 ] تحكموا بأحكامه ، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم ، وإن بذلتم الجزاء قبلنا ومنعناكم ، وإلا قاتلناكم . 
فتكلم  يزدجرد  فقال : إني لا أعلم في الأرض أمة أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم ، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفوننا أمركم ، ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس ، فإن كان غرر لحقكم فلا يغرنكم منا ، وإن كان الجهد فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم ، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم ، وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم . 
فأسكت القوم ، فقام  المغيرة بن زرارة  فقال : أيها الملك ، إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم ، وهم أشراف يستحيون من الأشراف ، وإنما يكرم الأشراف ويعظم حقهم الأشراف ، وليس كل ما أرسلوا به قالوه ، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه ، فجاوبني لأكون الذي أبلغك وهم يشهدون على ذلك لي ، فأما ما ذكرت من سوء الحال فهي على ما وصفت وأشد . ثم ذكر من سوء عيش العرب وإرسال الله النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم نحو قول  النعمان  ، وقتال من خالفهم أو الجزية ، ثم قال له : اختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر ، وإن شئت فالسيف ، أو تسلم فتنجي نفسك . 
فقال : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم ! لا شيء لكم عندي . ثم استدعى بوقر من تراب فقال : احملوه على أشراف هؤلاء ، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن  ، ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه  رستم  حتى يدفنه ويدفنكم معه في خندق القادسية  ، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم بأنفسكم بأشد مما نالكم من سابور    . 
فقام  عاصم بن عمرو  ليأخذ التراب وقال : أنا أشرفهم ، أنا سيد هؤلاء . فحمله على عنقه وخرج إلى راحلته فركبها ، وأخذ التراب وقال  لسعد     : أبشر فوالله لقد أعطانا الله أقاليد ملكهم . 
واشتد ذلك على جلساء الملك ، وقال الملك  لرستم  ، وقد حضر عنده من ساباط    : ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء ، ما أنتم بأحسن جوابا منهم ، ولقد صدقني القوم ، لقد وعدوا أمرا ليدركنه أو ليموتن عليه ، على أني وجدت أفضلهم أحمقهم حيث حمل   [ ص: 294 ] التراب على رأسه . فقال  رستم     : أيها الملك ، إنه أعقلهم . وتطير إلى ذلك وأبصرها دون أصحابه ، وخرج  رستم  من عند الملك غضبان كئيبا ، وبعث في أثر الوفد وقال لثقته : إن أدركهم الرسول تلافينا أرضنا ، وإن أعجزه سلبكم الله أرضكم ، فرجع الرسول من الحيرة  بفواتهم ، فقال : ذهب القوم بأرضكم من غير شك . وكان منجما كاهنا . 
وأغار  سواد بن مالك التميمي  بعد مسير الوفد إلى  يزدجرد  على النجاف والفراض ، فاستاق دابة من بين بغل وحمار وثور وأوقرها سمكا ، وصبح العسكر ، فقسمه  سعد  بين الناس ، وهذا يوم الحيتان  ، وكانت السرايا تسري لطلب اللحوم ، فإن الطعام كان كثيرا عندهم ، فكانوا يسمون الأيام بها : يوم الأباقر ويوم الحيتان . وبعث  سعد  سرية أخرى فأغاروا فأصابوا إبلا لبني تغلب  والنمر  واستاقوها ومن فيها ، فنحر  سعد  الإبل وقسمها في الناس فأخصبوا ، وأغار   عمرو بن الحارث  على النهرين  فاستاق مواشي كثيرة وعاد . 
وسار  رستم  من ساباط  ، وجمع آلة الحرب وبعث على مقدمته  الجالينوس  في أربعين ألفا ، وخرج هو في ستين ألفا ، وفي ساقته عشرون ألفا ، وجعل في ميمنته  الهرمزان  ، وعلى الميسرة  مهران بن بهرام الرازي  ، وقال  رستم  للملك يشجعه بذلك : إن فتح الله علينا القوم فتوجهنا إلى ملكهم في دارهم حتى نشغلهم في أصلهم وبلادهم إلى أن يقبلوا المسالمة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					