ذكر يوم عماس  
ثم أصبحوا اليوم الثالث وهم على مواقفهم ، وبين الصفين من قتلى المسلمين ألفان من جريح وميت ، ومن المشركين عشرة آلاف ، فجعل المسلمون ينقلون قتلاهم إلى المقابر والجرحى إلى النساء ، وكان النساء والصبيان يحفرون القبور ، وكان على الشهداء  حاجب بن زيد     . وأما قتلى المشركين فبين الصفين لم ينقلوا ، وكان ذلك مما   [ ص: 310 ] قوى المسلمين ، وبات  القعقاع  تلك الليلة يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه وقال : إذا طلعت الشمس فأقبلوا مائة مائة ، فإن جاء  هاشم  فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجدا ولا يشعر به أحد . وأصبح الناس على مواقفهم ، فلما ذر قرن الشمس أقبل أصحاب  القعقاع  ، فحين رآهم كبر وكبر المسلمون وتقدموا وتكتبت الكتائب واختلفوا الضرب والطعن والمدد متتابع ، فما جاء آخر أصحاب  القعقاع  حتى انتهى إليهم  هاشم  ، فأخبر بما صنع  القعقاع  ، فعبى أصحابه سبعين سبعين ، وكان فيهم  قيس بن هبيرة بن عبد يغوث  المعروف  بقيس بن المكشوف المرادي  ، ولم يكن من أهل الأيام إنما كان باليرموك  ، فانتدب مع  هاشم  حتى إذا خالط القلب كبر وكبر المسلمون وقال : أول قتال المطاردة ثم المراماة ; ثم حمل على المشركين يقاتلهم حتى خرق صفهم إلى العتيق ثم عاد . 
وكان المشركون قد باتوا يعملون توابيتهم ، حتى أعادوا وأصبحوا على مواقفهم ، وأقبلت الرجالة مع الفيلة يحمونها أن تقطع وضنها ، ومع الرجالة فرسان يحمونهم ، فلم تنفر الخيل منهم كما كانت بالأمس ، لأن الفيل إذا كان وحده كان أوحش ، وإذا طافوا به كان آنس ، وكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديدا ، العرب والعجم فيه سواء ، ولا تكون بينهم نقطة إلا أبلغوها يزدجرد بالأصوات ، فيبعث إليهم أهل النجدات ممن عنده ، فلولا أن الله ألهم  القعقاع  ما فعل في اليومين وإلا كسر ذلك المسلمين . 
وقاتل   قيس بن المكشوح  ، وكان قد قدم مع  هاشم  ، قتالا شديدا وحرض أصحابه . 
وقال  عمرو بن معدي كرب     : إني حامل على الفيل ومن حوله ، لفيل بإزائه ، فلا تدعوني أكثر من جزر جزور ، فإن تأخرتم عني فقدتم   أبا ثور  ، يعني نفسه ، وأين لكم مثل   أبي ثور     ! فحمل وضرب فيهم حتى ستره الغبار وحمل بأصحابه فأفرج المشركون عنه بعدما صرعوه ، وإن سيفه لفي يده يصارمهم ، وقد طعن فرسه ، فأخذ برجل فرس أعجمي فلم يطق الجري ، فنزل عنه صاحبه إلى أصحابه وركب  عمرو     . وبرز فارسي ، فبرز إليه رجل من المسلمين يقال له  شبر بن علقمة  ، وكان قصيرا ، فترجل الفارسي إليه فاحتمله وجلس على صدره ، ثم أخذ سيفه ليذبحه ، ومقود فرسه مشدود في منطقته ، فلما   [ ص: 311 ] سل سيفه نفر الفرس ، فجذبه المقود فقلبه عنه ، وتبعه المسلم فقتله ، وأخذ سلبه فباعه باثني عشر ألفا . 
فلما رأى  سعد  الفيول قد فرقت بين الكتائب وعادت لفعلها ، أرسل إلى  القعقاع  وعاصم  ابني  عمرو     : اكفياني الأبيض ، وكانت كلها آلفة له ، وكان بإزائهما ، وقال لحمال والربيل : اكفياني الأجرب ، وكان بإزائهما ، فأخذ  القعقاع  وعاصم  رمحين ، وتقدما في خيل ورجل ، وفعل حمال والربيل مثل فعلهما ، فحمل  القعقاع  وعاصم  فوضعا رمحيهما في عين الفيل الأبيض فنفض رأسه فطرح سائسه ودلى مشفره ، فضربه  القعقاع  فرمى به ، ووقع لجنبه ، وقتلوا من كان عليه ، وحمل حمال والربيل الأسديان على الفيل الآخر فطعنه حمال في عينه ، فأقعى ثم استوى ، وضربه الربيل فأبان مشفره ، وبصر به سائسه فبقر أنفه وجبينه بالطبرزين ، فأفلت الربيل جريحا ، فبقي الفيل جريحا متحيرا بين الصفين ، كلما جاء صف المسلمين وخزوه ، وإذا أتى صف المشركين نخسوه . وولى الفيل ، وكان يدعى الأجرب ، وقد عور حمال عينيه ، فألقى نفسه في العتيق ، فاتبعته الفيلة فخرقت صف الأعاجم ، فعبرت في أثره ، فأتت المدائن في توابيتها ، وهلك من فيها . فلما ذهبت الفيلة وخلص المسلمون والفرس ، ومال الظل ، تزاحف المسلمون ، فاجتلدوا حتى أمسوا وهم على السواء . فلما أمسى الناس اشتد القتال ، وصبر الفريقان فخرجا على السواء . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					