ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة الدنيا بين الناس ، وأنها عرض حاضر ، [ ص: 200 ] يقسمها دولا بين أوليائه وأعدائه ، بخلاف الآخرة ، فإن عزها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا .
ثم ذكر حكمة أخرى ، وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه ، وذلك العلم الغيبي لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ، وإنما يترتب الثواب والعقاب على المعلوم إذا صار مشاهدا واقعا في الحس .
ثم ذكر حكمة أخرى ، وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء ، فإنه يحب الشهداء من عباده ، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها ، وقد اتخذهم لنفسه ، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة .
وقوله : ( والله لا يحب الظالمين ) [ آل عمران : 140 ] ، تنبيه لطيف الموقع جدا على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخذلوا عن نبيه يوم أحد فلم يشهدوه ولم يتخذ منهم شهداء ، لأنه لم يحبهم فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنين في ذلك اليوم ، وما أعطاه من استشهد منهم ، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه .
ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم ، وهو تمحيص الذين آمنوا ، وهو تنقيتهم وتخليصهم من الذنوب ، ومن آفات النفوس ، وأيضا فإنه خلصهم ، ومحصهم من المنافقين ، فتميزوا منهم ، فحصل لهم تمحيصان : تمحيص من نفوسهم ، وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدوهم .
ثم ذكر حكمة أخرى وهي محق الكافرين بطغيانهم وبغيهم وعدوانهم ، ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم أن يدخلوا الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه ، وإن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه وحسبه .
فقال : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) [ آل عمران : 142 ] ، أي ولما يقع ذلك منكم فيعلمه ، فإنه لو وقع لعلمه فجازاكم عليه بالجنة ، فيكون الجزاء على الواقع المعلوم ، لا على مجرد العلم ، فإن الله لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومه ، ثم وبخهم على [ ص: 201 ] هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ويودون لقاءه .
فقال : ( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) [ آل عمران : 143 ] .
قال : ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء ابن عباس بدر من الكرامة رغبوا في الشهادة ، فتمنوا قتالا يستشهدون فيه ، فيلحقون إخوانهم ، فأراهم الله ذلك يوم أحد وسببه لهم ، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم ، فأنزل الله تعالى : ( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) .