الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح ، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر ، وكانت معركة ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم ، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل ، فدعا إلى البيعة ، فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على ألا يفروا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال : ( هذه عن عثمان )

ولما تمت البيعة رجع عثمان فقال له المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت ؟ فقال : ( بئس ما ظننتم بي ، والذي نفسي بيده لو مكثت بها سنة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت ) . فقال المسلمون : رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلمنا بالله وأحسننا ظنا ، ( وكان عمر آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد بن قيس ) .

( وكان معقل بن يسار آخذا بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان [ ص: 260 ] أول من بايعه أبو سنان الأسدي )

وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات في أول الناس وأوسطهم وآخرهم .

فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل : ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنا لم نجئ لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا ، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره )

قال بديل : سأبلغهم ما تقول . فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وقد سمعته يقول قولا ، فإن شئتم عرضته عليكم . فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء . وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته . قال : سمعته يقول كذا وكذا . فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم . فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته . فقالوا : ائته . فأتاه فجعل يكلمه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل ، فقال له عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى أوشابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك . فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟! قال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر . قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك . وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وكلما [ ص: 261 ] كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم . فرفع عروة رأسه وقال : من ذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة . فقال : أي غدر ، أولست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء )

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه ، فوالله ما تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها جلده ووجهه ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ، فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها له . فبعثوها له ، واستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ) فرجع إلى أصحابه فقال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت وما أرى أن يصدوا عن البيت . فقام مكرز بن حفص فقال : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر ) . فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد سهل لكم من أمركم ) فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتابا . فدعا الكاتب فقال : " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " . فقال [ ص: 262 ] سهيل : أما الرحمن فوالله ما ندري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب . فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اكتب : باسمك اللهم " . ثم قال : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ) . فقال سهيل : فوالله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني رسول الله ، وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله ) . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به . فقال سهيل والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ، ولكن ذلك من العام المقبل . فكتب ، فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا . فقال المسلمون : سبحان الله ، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟! بينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد . فقال : فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فأجزه لي . قال : ما أنا بمجيزه لك . قال : بلى فافعل . قال : ما أنا بفاعل . قال مكرز : بلى قد أجزناه ، فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما لقيت ؟! وكان قد عذب في الله عذابا شديدا .

قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، ألست نبي الله حقا ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . فقلت : علام نعطي الدنية في ديننا إذا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : ( إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه ) . قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا . قال : فإنك آتيه ومطوف به . قال فأتيت أبا بكر فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد علي أبو بكر كما رد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ، وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت فوالله إنه لعلى [ ص: 263 ] الحق . قال عمر : فعملت لذلك أعمالا .

فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قوموا فانحروا ثم احلقوا ) . فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا رسول الله ، أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك . فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك : نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، ثم جاءه نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ) ، حتى بلغ ( بعصم الكوافر ) [ الممتحنة 10 ] ، فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع إلى المدينة ، وفي مرجعه أنزل الله عليه : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا ) [ الفتح 1 - 3 ] فقال عمر : أوفتح هو يا رسول الله ؟ قال : نعم . فقال الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فأنزل الله عز وجل : ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين
) [ الفتح : 4 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية