7 - ضوء الشمعة في عدد الجمعة 
بسم الله الرحمن الرحيم 
مسألة : اختلف علماء الإسلام في العدد الذي تنعقد به الجمعة  على أربعة عشر قولا بعد إجماعهم على أنه لا بد من عدد ، وإن نقل  ابن حزم  عن بعض العلماء أنها تصح بواحد ، وحكاه  الدارمي  عن  القاشاني  فقد قال في شرح المهذب : إن  القاشاني  لا يعتد به في الإجماع : 
أحدها : أنها تنعقد باثنين أحدهما الإمام كالجماعة ، وهو قول  النخعي  ،  والحسن بن صالح  ،  وداود     . 
الثاني : ثلاثة أحدهم الإمام ، قال في شرح المهذب : حكي عن  الأوزاعي   وأبي ثور  ، وقال غيره : هو مذهب  أبي يوسف  ومحمد  حكاه  الرافعي  وغيره عن القديم . 
الثالث : أربعة أحدهم الإمام ، وبه قال  أبو حنيفة  ،  والثوري  ،  والليث  ، وحكاه  ابن المنذر  عن  الأوزاعي   وأبي ثور  ، واختاره وحكاه في شرح المهذب عن  محمد  ، وحكاه صاحب   [ ص: 76 ] التلخيص قولا  للشافعي  في القديم ، وكذا حكاه في شرح المهذب ، واختاره  المزني  ، كما حكاه عنه  الأذرعي  في القوت ، وهو اختياري . 
الرابع : سبعة حكي عن  عكرمة     . 
الخامس : تسعة حكي عن  ربيعة     . 
السادس : اثنا عشر في رواية عن  ربيعة  حكاه عنه المتولي في التتمة ،  والماوردي  في الحاوي ، وحكاه  الماوردي  أيضا عن  الزهري   والأوزاعي  ومحمد بن الحسن     . 
السابع : ثلاثة عشر أحدهم الإمام ، حكي عن  إسحاق بن راهويه     . 
الثامن : عشرون ، رواية  ابن حبيب  عن  مالك     . 
التاسع : ثلاثون في رواية عن  مالك     . 
العاشر : أربعون أحدهم الإمام ، وبه قال  عبيد الله بن عبد الله بن عتبة  ،  وعمر بن عبد العزيز  ،  والشافعي  ،  وأحمد  ،  وإسحاق  ، حكاه عنهم في شرح المهذب . 
الحادي عشر : أربعون غير الإمام في أحد القولين  للشافعي     . 
الثاني عشر : خمسون ، وبه قال  عمر بن عبد العزيز  ،  وأحمد  ، في إحدى الروايتين عنهما . 
الثالث عشر : ثمانون ، حكاه  المازري     . 
الرابع عشر : جمع كثير بغير قيد ، وهذا مذهب  مالك  ، فالمشهور من مذهبه أنه لا يشترط عدد معين ، بل تشترط جماعة تسكن بهم قرية ، ويقع بينهم البيع ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم . قال الحافظ  ابن حجر  في شرح  البخاري     : ولعل هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل ، وأقول : هو كذلك ؛ لأنه لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص ، وأنا أبين ذلك ، أما اشتراط ثمانين أو ثلاثين أو عشرين أو تسعة أو سبعة فلا مستند له البتة ، وأما الذي قال باثنين فإنه رأى العدد واجبا بالحديث والإجماع ، ورأى أنه لم يثبت دليل في اشتراط عدد مخصوص ، ورأى أن أقل العدد اثنان فقال به قياسا على الجماعة ، وهذا في الواقع دليل قوي لا ينقضه إلا نص صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا أو بذكر عدد معين ، وهذا شيء لا سبيل إلى وجوده ، وأما الذي قال بثلاثة فإنه رأى العدد واجبا في حضور الخطبة كالصلاة ، فشرط العدد في المأمومين المستمعين للخطبة فإنه لا يحسن عد الإمام منهم ، وهو الذي يخطب ويعظ ، وأما الذي قال بأربعة فمستنده ما أخرجه  الدارقطني  في سننه قال : حدثنا  أبو بكر النيسابوري  ، ثنا  محمد بن يحيى  ، ثنا  محمد بن وهب بن عطية  ، ثنا  بقية بن الوليد  ، ثنا  معاوية بن يحيى  ، ثنا  معاوية بن سعيد التجيبي  ، ثنا  الزهري  ، عن  أم عبد الله الدوسية  قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة   ) قال  الدارقطني     : لا يصح هذا عن  الزهري  ، وقد أخرجه  البيهقي  في سننه من هذا الطريق وله طريق ثان قال   [ ص: 77 ]  الدارقطني     : حدثنا  أبو عبد الله محمد بن علي بن إسماعيل الأيلي  ، ثنا  عبيد الله بن محمد بن خنيس الكلاعي  ، ثنا  موسى بن محمد بن عطاء  ، ثنا  الوليد بن محمد - هو الموقري     - ثنا  الزهري  ، حدثتني  أم عبد الله الدوسية  قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة   ) قال  الدارقطني     :  الموقري  متروك ، ولا يصح هذا عن  الزهري  ، كل من رواه عنه متروك ، طريق ثالث ، قال  الدارقطني     : حدثنا  أبو عبد الله الأيلي  ، ثنا  يحيى بن عثمان  ، ثنا  عمرو بن الربيع بن طارق ،  ثنا  مسلمة بن علي  ، عن  محمد بن مطرف  ، عن  الحكم بن عبد الله بن سعد  ، عن  الزهري  ، عن  أم عبد الله الدوسية  قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( الجمعة واجبة على أهل قرية وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم إمامهم   ) قال  الدارقطني     :  الزهري  لا يصح سماعه من  الدوسية  ،  والحكم  متروك ، طريق آخر : قال  ابن عدي  في الكامل : أخبرنا  ابن مسلم  ، ثنا  محمد بن مصفى  ، ثنا  بقية  ، ثنا  معاوية بن يحيى  ، ثنا  معاوية بن سعيد التجيبي  ، عن  الحكم بن عبد الله  ، عن  الزهري  ، عن  أم عبد الله الدوسية  قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة   ) حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة - أخرجه  البيهقي  من هذا الطريق وقال :  الحكم بن عبد الله  متروك ،  ومعاوية بن يحيى  ضعيف ، ولا يصح هذا عن  الزهري  ، قلت : قد حصل من اجتماع هذه الطرق نوع قوة للحديث ، فإن الطرق يشد بعضها بعضا خصوصا إذا لم يكن في السند متهم ، ويزيدها قوة ما أخرجه  الدارقطني  قال : حدثنا  علي بن محمد بن عقبة الشيباني  ، ثنا  إبراهيم بن إسحاق بن أبي العنبس  ، ثنا  إسحاق بن منصور  ، ثنا  هريم  ، عن  إبراهيم بن محمد بن المنتشر  ، عن  قيس بن مسلم  ، عن  طارق بن شهاب  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الجمعة واجبة في جماعة إلا على أربعة    : عبد مملوك ، أو صبي ، أو مريض ، أو امرأة   ) وجه الدلالة منه أنه أطلق الجماعة فشمل كل ما يسمى جماعة ، وذلك صادق بثلاثة غير الإمام ، وأما الذي قال باثني عشر فمستنده ما أخرجه  البخاري   ومسلم  عن  جابر     : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام  فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا   ) وجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام ، فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف ، قلت : هو دال على صحتها باثني عشر بلا شبهة ، وأما اشتراط اثني عشرة أنها لا تصح بدون هذا العدد فليس فيه دلالة على ذلك ، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلا وتمت بهم الجمعة ، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم ، فإن قلت : فكيف أخذت من الأحاديث السابقة اشتراط أربعة ؟ قلت : لأن قوله   [ ص: 78 ] وإن لم يكونوا إلا أربعة بيان لأقل عدد تجزئ به الجمعة أن ذلك شأن ( أن ) و ( لو ) الوصليتين كما تقرر في العربية أنهما يذكر بعدهما منتهى الأحوال وأندرها ، تقول : أحسن إلى زيد وإن أساء ، وأعط السائل ولو جاء على فرس ، فهاتان الحالتان منتهى غاية المحسن إليه والمعطى ، ومنه قوله تعالى : ( كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين    ) فليس بعد مرتبة النفس والوالدية والأقربية مرتبة تذكر ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإن لم يكونوا إلا أربعة   ) بيان لمنتهى مراتب العدد المجزئ ، ولو كان أقل منه مجزئا لذكره ، ويرشد إلى ذلك التعبير بالغاية في قوله في الحديث الآخر ، حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة ، فإن هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم تنزل إلى مراتب الأعداد حتى انتهت غايته إلى ذكر الثلاثة ، فإن قلت : فعلى هذا يشترط ثلاثة لا أربعة . 
قلت : المراد ثلاثة غير الإمام ; لقوله في الحديث الآخر : ( وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم إمامهم   ) فإن قلت : مسلم دلالة الحديث على ما ذكرت غير أنه لم يثبت ثبوت الأحاديث المحتج بها فإنه ضعيف من جميع طرقه ، وإنما يحتج بما بلغ مرتبة الصحة أو الحسن ، قلت : كذلك قولهم بالأربعين حديثه ضعيف ليس له طريق صحيح ولا حسن ، قال  النووي  في شرح المهذب : احتج أصحابنا لاشتراط الأربعين بما أخرجه  الدارقطني   والبيهقي  عن  جابر  قال : مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما ، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وفطر وأضحى ، وذلك أنهم جماعة ، قال : لكنه حديث ضعيف ضعفه الحفاظ ، وقال  البيهقي  هو حديث لا يصح الاحتجاج به ، قال  النووي     : واحتجوا أيضا بأحاديث بمعناه لكنها ضعيفة ، قال : وأقرب ما يحتج به ما احتج به  البيهقي  والأصحاب عن  عبد الرحمن بن كعب بن مالك  عن أبيه قال : ( أول من جمع بنا في المدينة   سعد بن زرارة  قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة  في نقيع الخضمات  ، قلت : كم كنتم ؟ قال : أربعين رجلا ) حديث حسن رواه  أبو داود  ،  والبيهقي  ، وغيرهما بأسانيد صحيحة . 
قال  البيهقي  وغيره : وهو حديث صحيح ، قال أصحابنا : وجه الدلالة أن يقال : أجمعت الأمة على اشتراط العدد ، والأصل الظهر ، فلا تصح الجمعة إلا بعدد ثبت فيه التوقيف ، وقد ثبت جوازها بأربعين فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صريح ، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي   ) ولم تثبت صلاته لها بأقل من أربعين انتهى ، وأقول : لا دلالة في حديث  كعب  على اشتراط الأربعين ، لأن هذه واقعة عين ، وذلك أن الجمعة فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة   [ ص: 79 ] قبل الهجرة ، فلم يتمكن من إقامتها هناك من أجل الكفار ، فلما هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة  كتب إليهم يأمرهم أن يجمعوا فجمعوا ، واتفق أن عدتهم إذ ذاك كانت أربعين ، وليس فيه ما يدل على أن من دون الأربعين لا تنعقد بهم الجمعة ، وقد تقرر في الأصول أن وقائع الأعيان لا يحتج بها على العموم ، وقولهم : لم يثبت أنه صلى الجمعة بأقل من أربعين يرده حديث الانفضاض السابق فإنه أتمها باثني عشر ، فدل ذلك على أن تعيين الأربعين لا يشترط ، وما أخرجه  الطبراني  عن  أبي مسعود الأنصاري  قال : أول من قدم من المهاجرين المدينة    مصعب بن عمير  ، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمعهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلا ، قال الحافظ  ابن حجر     : ويجمع بينه وبين حديث  كعب  بأن  سعدا  كان أميرا وكان  مصعب  إماما ، وأغرب من ذلك قول  البيهقي  باب ما يستدل به على أن عدد الأربعين له تأثير فيما يقصد منه الجماعة ثم أورد فيه حديث  ابن مسعود  قال : جمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت آخر من أتاه ونحن أربعون رجلا فقال : ( إنكم مصيبون ومنصورون ومفتوح لكم ، فمن أدرك ذلك فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر وليصل الرحم   ) فاستدلاله بهذا في غاية العجب ؛ لأن هذه واقعة قصد فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع أصحابه ليبشرهم ، فاتفق أن اجتمع له منهم هذا العدد فهل يظن أنه لو حضر أقل منهم لم يفعل ما دعاهم لأجله ؟ وإيراد  البيهقي  لهذا الحديث أقوى دليل على أنه لم يجد من الأحاديث ما يدل للمسألة صريحا ، وقد روى  الطبراني  في الأوسط من حديث  أنس  مرفوعا : ( إذا راح منا سبعون رجلا إلى الجمعة كانوا كسبعين موسى  الذين وفدوا إلى ربهم أو أفضل   ) ولم يستدل أحد بهذا الحديث على اشتراط سبعين في الجمعة مع أنه أوجه من كثير مما استدلوا به على غيره من العدد ، وقال  الغزالي  في البسيط في الاستدلال على اعتبار الأربعين : مستند  الشافعي  في هذا العدد أن الأصل في الظهر الإتمام إلا بشرائط ، والعدد بالإجماع شرط ، وللشرع اعتناء بكثرة الجمع ، ولذلك لا تنعقد جمعتان في بلدة ولا بد من مستند التقدير ، وأقل ما يحصل به الاقتداء غير كاف فيكفي أدنى مستند ، وقد روي عن  جابر بن عبد الله  أنه قال : مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة ، واستأنس  الشافعي  بمذهب  عمر بن عبد العزيز  ، وانضم إليه أنه لم يعتبر أحد زيادة على أربعين ، فكان هذا الاتقاء بالاحتياط - هذا كلام  الغزالي  ، وفي النهاية لإمام الحرمين نحوه ، فانظر إلى هذا المستند المركب من ثلاثة أمور : الأول : حديث ضعيف لا تقوم به الحجة مع أنه معارض بحديث آخر ، ومع كون هذا   [ ص: 80 ] الحديث غير مصرح برفعه ، والحديث المعارض له مصرح برفعه ، وإذا قايست بين الحديثين من جهة الإسناد كان إسناد الحديث المعارض أمثل من إسناد هذا الحديث ، والأمر الثاني مذهب تابعي ،  والشافعي  رضي الله عنه لا يحتج بمذهب الصحابي فضلا عن التابعي ، ثم هو معارض بما حكى عن غيره من التابعين . والثالث الأمر المنضم إليه ولا حجة فيه مع بطلانه في نفسه ، فإنه قد ثبت اعتبار الزيادة على الأربعين عن  عمر بن عبد العزيز  كما تقدم ، والروايتان عنه في سنن  البيهقي  ، فأخرج عن  سليمان بن موسى  أن  عمر بن عبد العزيز  كتب إلى أهل المياه فيما بين الشام  إلى مكة  جمعوا إذا بلغتم أربعين ، وأخرج عن  أبي المليح الرقي  قال : أتانا كتاب  عمر بن عبد العزيز     : إذا بلغ أهل القرية أربعين رجلا فليجمعوا   . وأخرج عن  معاوية بن صالح  قال : كتب  عمر بن عبد العزيز  قال : أيما قرية اجتمع فيها خمسون رجلا فليؤمهم رجل منهم وليخطب عليهم ليصل بهم الجمعة ، ويوافق اشتراط الخمسين ما أخرجه  الطبراني  في الكبير  والدارقطني  عن  أبي أمامة  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الجمعة على الخمسين رجلا وليس على ما دون الخمسين جمعة   ) ولفظ  الدارقطني  على الخمسين جمعة ليس فيما دون ذلك لكنه ضعيف ، ومع ضعفه فهو محتمل للتأويل ؛ لأن ظاهره أن هذا العدد شرط للوجوب لا شرط للصحة ، فلا يلزم من عدم وجوبها على من دون الخمسين عدم صحتها منهم ، وعندي أن الروايتين الواردتين عن  عمر بن عبد العزيز  ليستا باختلاف قولين له بل المراد منهما ، ومن حديث  أبي أمامة  المذكور ، ومن حديث  جابر  الذي احتجوا به للأربعين ، ومن الأثر الذي أخرجه  البيهقي  عن  عبيد الله بن عبد الله بن عتبة  قال : كل قرية فيها أربعون رجلا فعليهم الجمعة ، بيان شرط المكان الذي تصح فيه الجمعة  لا العدد الذي تنعقد به ، فإن الجمعة لا تصح في كل مكان بل في مكان مخصوص ، إما مصر  ، قال  علي  رضي الله عنه : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع . وإما بلد أو قرية ، ولا تصح في فضاء ولا صحراء ، فأريد بالأحاديث والآثار المذكورة بيان المكان الذي يصلح ، ولا يصلح أن يسمى بلدا أو قرية إلا ما كان فيها من الرجال قاطنا جمع نحو الأربعين والخمسين وما شاكل ذلك ، فذكر  عمر  في أحد كتبه الأربعين وفي بعضها الخمسين كل منهما على وجه المثال لا التحديد بالعدد المخصوص ، ويفيد هذا أنه إذا قطن في مكان نحو هذا العدد صح أن تقام به الجمعة ، ثم إن أقامها أقل من هذا العدد وهم بعض من فيها صحت منهم ، ويؤيد هذا التأويل الذي ظهر لي وأنه هو المراد ما أخرجه  البيهقي  عن  جعفر بن برقان  قال : كتب  عمر بن عبد العزيز  إلى  عدي بن عدي الكندي     : انظر كل قرية   [ ص: 81 ] أهل قرار ليسوا بأهل عمود ينتقلون فأمر عليهم أميرا ثم مره فليجمع بهم ، وأخرج عن  الوليد بن مسلم  قال : سألت  الليث بن سعد  فقال : كل مدينة أو قرية في جماعة وعليهم أمير أمروا بالجمعة فليجمع بهم ، فإن أهل الإسكندرية  ومدائن مصر  ومدائن سواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد  عمر بن الخطاب   وعثمان بن عفان  بأمرهما وفيهما رجال من الصحابة . وأخرج عن  عبد الله بن عمر  الذي سئل عن القرى التي بين مكة  والمدينة  ما ترى في الجمعة فيها ؟ قال : نعم إذا كان عليهم أمير فليجمع ، ومما يؤيد أيضا أنها ذكرت لبيان المكان الصالح لا العدد الحاضر أن في حديث  جابر  الذي استدلوا به للأربعين عطفا على جمعة وفطر وأضحى ، فلو كان الحديث لبيان اشتراط الأربعين في الجمعة وأنها لا تصح ممن دونهم للزم مثل ذلك أيضا في الفطر والأضحى ، فكان يشترط في صحتهما حضور الأربعين ولا يصحان ممن دونهم ، وليس كذلك ، فعلم أن المراد بيان المكان الذي يصلح لمشروعية إقامة الجمعة والأعياد فيه بحيث يؤمر أهله بذلك وبالاجتماع له ، ثم أي جمع أقام الجمعة صح ذلك منهم ، وأي جمع أقام الأعياد صح ذلك منهم ، ومما يؤيد ذلك أيضا التعبير ( بفي ) حيث قيل في كل أربعين جمعة دون ( من ) وسائر حروف الجر فدل على أن المراد بالعدد إيقاعها فيهم لا منهم ولا بد ، وذلك صادق بأي جمع أقاموها في بلد استوطنه أربعون ، وهذا استنباط حسن دقيق . 
والحاصل أن الأحاديث والآثار دلت على اشتراط إقامتها في بلد يسكنه عدد كثير بحيث يصلح أن يسمى بلدا ، ولم تدل على اشتراط ذلك العدد بعينه في حضورها لتنعقد ، بل أي جمع أقاموها صحت بهم ، وأقل الجمع ثلاثة غير الإمام فتنعقد بأربعة أحدهم الإمام ، هذا ما أداني الاجتهاد إلى ترجيحه ، وقد رجح هذا القول  المزني  كما نقله عنه  الأذرعي  في القوت وكفى به سلفا في ترجيحه ، فإنه من كبار الآخذين عن الإمام  الشافعي  ومن كبار رواة كتبه الجديدة ، وقد أداه اجتهاده إلى ترجيح القول القديم ، ورجحه أيضا من أصحابنا  أبو بكر بن المنذر  في الأشراف ، ونقله عنه  النووي  في شرح المهذب ، قال  الماوردي  في الحاوي : قال  المزني     : احتج  الشافعي  بما لا يثبته أصحاب الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة  جمع بأربعين انتهى ، وهذا هو الذي استدل به  الرافعي  في الشرح ، وقال الحافظ  ابن حجر  في تخريجه : لم أره ، ثم أورد حديث  كعب  وقال : إنه لا دلالة فيه ، ثم قال  الماوردي     : وقد قدح في حديث  كعب  بأنه مضطرب لا يصح الاحتجاج به ; لأنه يروي تارة أن  مصعبا   [ ص: 82 ] صلى بالناس ، ويروي تارة أخرى أن  سعد بن زرارة  صلى بهم ، وروى تارة بالمدينة  ، وتارة ببني بياضة ، فلأجل اضطرابه واختلاف روايته لا يصح الاحتجاج به ، قلت : ومن اضطرابه أنه روى أنهم كانوا أربعين ، وروى أنهم كانوا اثني عشر كما تقدم ، ثم قال  الماوردي     : ومن الدليل ما روى  سليمان بن طريف  عن  مكحول  عن  أبي الدرداء  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا اجتمع أربعون رجلا فعليهم الجمعة ، وهذا الحديث أورده صاحب التتمة ثم  الرافعي  ، وقال الحافظ  ابن حجر  في تخريجه : لا أصل له ، وأورد  الرافعي  وغيره حديث  أبي أمامة  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا جمعة إلا بأربعين ، قال الحافظ  ابن حجر  أيضا : ولا أصل له ، وقال  ابن الرفعة  في الكفاية : إن انتفت الأدلة المنصوصة على اعتبار الأربعين قلنا : الأصل الظهر عاما ، وإنما يرد إلى ركعتين بشرائط منها العدد وأصله مشروط بالإجماع ، ولم ينقل عن الشارع لفظ صريح في التقدير ، وفهم منه طلب تكثير الجماعة لأنه لم يشرع جمعتين في بلد فأكثر كما في غيرها من الصلوات ، وأكثر ما قيل فيه أربعون فأخذنا به احتياطا ، ثم قال : وقد اعترض بعضهم على هذا بأن الإمام  أحمد  اشترط في عقدها خمسين في أحد قوليه . 
قلت : وحاصل ما ذكره  ابن الرفعة  أنه لم يوجد دليل من النص على اعتبار الأربعين فعدل إلى هذه الطريقة من الاستدلال ، وهذا هو الذي عول عليه  الماوردي  ، وإمام الحرمين ،  والغزالي  ، وغيرهم ، وتبعهم  الرافعي  والنووي     . 
( خاتمة ) : اعلم أن ترجيحنا لهذا القول أولى من ترجيح المتأخرين جواز تعدد الجمعة  ، فإنه ليس  للشافعي  نص بجواز التعدد أصلا لا في الجديد ولا في القديم ، وإنما وقع منه في القديم سكوت فاستنبطوا منه رأيا بالجواز ، ثم زادوا فرجحوه على نصوصه في الكتب الجديدة ، وهو نفسه قد قال : لا ينسب لساكت قول ، فكيف ينسب إليه قول من سكوته ويرجح على نصوصه المصرحة بخلافه ، وأما الذي نحن فيه فإنه نص له صريح ، وقد اقتضت الأدلة ترجيحه فرجحناه فهو في الجملة قول له قام الدليل على ترجيحه على قوله الثاني فهو أولى ممن ترك نصه بالكلية ، وذهب إلى ترجيح شيء خلافه لم ينص عليه البتة ، ثم يصير لهذه المسألة أسوة بالمسائل التي صحح فيها  النووي  القول القديم كمسألة امتداد وقت المغرب إلى مغيب الشفق . ومسألة تفضيل غسل الجمعة على غسل الميت ، ومسألة صوم الولي عن قريبه الميت وأشباه ذلك . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					