( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون )
قوله تعالى : ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون )
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن بمحمد - عليه الصلاة والسلام - شرع شرعه الله وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم ، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالبا دينا غير دين الله ، فلهذا قال بعده : ( الإيمان أفغير دين الله يبغون ) . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حفص عن عاصم " يبغون " و " يرجعون " بالياء المنقطة من تحتها ، لوجهين :
أحدهما : ردا لهذا إلى قوله : ( وأولئك هم الفاسقون ) [ آل عمران : 82 ] .
والثاني : أنه تعالى إنما ذكر حكاية أخذ الميثاق حتى يبين أن اليهود والنصارى يلزمهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فلما أصروا على كفرهم قال على جهة الاستنكار : ( أفغير دين الله يبغون ) ، وقرأ أبو عمرو " تبغون " بالتاء خطابا لليهود وغيرهم من الكفار و " يرجعون " [ ص: 107 ] بالياء ليرجع إلى جميع المكلفين المذكورين في قوله : ( وله أسلم من في السماوات والأرض ) ، وقرأ الباقون فيهما بالتاء على الخطاب ؛ لأن ما قبله خطاب كقوله : ( أأقررتم وأخذتم ) ، وأيضا فلا يبعد أن يقال للمسلم والكافر ولكل أحد : أفغير دين الله تبغون مع علمكم بأنه أسلم له من في السماوات والأرض ، وأن مرجعكم إليه ، وهو كقوله : ( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ) [ آل عمران : 101 ] .
المسألة الثانية : الهمزة للاستفهام والمراد استنكار أن يفعلوا ذلك أو تقرير أنهم يفعلونه ، وموضع الهمزة هو لفظة " يبغون " تقديره : أيبغون غير دين الله ؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث ، إلا أنه تعالى قدم المفعول الذي هو ( غير دين الله ) على فعله ؛ لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل ، وأما الفاء فلعطف جملة على جملة ، وفيه وجهان :
أحدهما : التقدير : فأولئك هم الفاسقون ، فغير دين الله يبغون .
واعلم أنه لو قيل أوغير دين الله يبغون جاز إلا أن في الفاء فائدة زائدة كأنه قيل : أفبعد أخذ هذا الميثاق المؤكد بهذه التأكيدات البليغة تبغون ؟ .
المسألة الثالثة : روي أن فريقين من أهل الكتاب اختصموا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام ، وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به ، فقال عليه الصلاة والسلام : كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم عليه السلام ، فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت هذه الآية ، ويبعد عندي حمل هذه الآية على هذا السبب ؛ لأن على هذا التقدير تكون هذه الآية منقطعة عما قبلها ، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها ، فالوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك ، فقد محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر ، فأعلمهم الله تعالى أنهم متى كانوا طالبين دينا غير دين الله ، ومعبودا سوى الله سبحانه .
كانوا عالمين بصدق