[ ص: 86 ] ثم إنه تعالى وصف ذلك اليوم فقال : ( يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : ( الذين كفروا وعصوا الرسول ) يقتضي كون عصيان الرسول مغايرا للكفر ؛ لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز ، فوجب حمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفر ، إذا ثبت هذا فنقول : الآية دالة على أن ، وأنهم كما يعاقبون يوم القيامة على الكفر فيعاقبون أيضا على تلك المعاصي ؛ لأنه لو لم يكن لتلك المعصية أثر في هذا المعنى لما كان في ذكر معصيتهم في هذا الموضع أثر . الكفار مخاطبون بفروع الإسلام
المسألة الثانية : ابن كثير وعاصم وأبو عمرو " تسوى " مضمومة التاء خفيفة السين على ما لم يسم فاعله ، وقرأ قرأ نافع وابن عامر " تسوى " مفتوحة التاء مشددة السين بمعنى : تتسوى ، فأدغم التاء في السين لقربها منها ، ولا يكره اجتماع التشديدين في هذه القراءة ؛ لأن لها نظائر في التنزيل كقوله : ( اطيرنا بك ) [ النمل : 47 ] ( وازينت ) [ يونس : 24 ] ( يذكرون ) وفي هذه القراءة اتساع ، وهو إسناد الفعل إلى الأرض ، وقرأ حمزة والكسائي " تسوى " مفتوحة التاء والسين خفيفة ، حذفا التاء التي أدغمها نافع ؛ لأنها كما اعتلت بالإدغام اعتلت بالحذف .
المسألة الثالثة : ذكروا في تفسير قوله : ( لو تسوى بهم الأرض ) وجوها :
الأول : لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى .
والثاني : يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء .
الثالث : تصير البهائم ترابا فيودون حالها ، كقوله : ( ياليتني كنت ترابا ) [ النبأ : 40 ] .
المسألة الرابعة : قوله : ( ولا يكتمون الله حديثا ) فيه لأهل التأويل طريقان :
الأول : أن هذا متصل بما قبله .
والثاني : أنه كلام مبتدأ ، فإذا جعلناه متصلا احتمل وجهين :
أحدهما : ما قاله - رضي الله عنهما - : يودون لو تنطبق عليهم الأرض ولم يكونوا كتموا أمر ابن عباس محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا كفروا به ولا نافقوا ، وعلى هذا القول : الكتمان عائد إلى ما كتموا من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني : أن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله تعالى يغفر لأهل الإسلام ولا يغفر شركا ، قالوا : تعالوا فلنجحد ، فيقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ، رجاء أن يغفر الله لهم ، فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يعملون ، فهنالك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا .
الطريق الثاني في التأويل : أن هذا الكلام مستأنف ، فإن ما عملوه ظاهر عند الله ، فكيف يقدرون على كتمانه ؟
المسألة الخامسة : فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) ؟
والجواب من وجوه :
الأول : أن مواطن القيامة كثيرة ، فموطن لا يتكلمون فيه وهو قوله : ( فلا تسمع إلا همسا ) [ طه : 108 ] وموطن يتكلمون فيه كقوله : ( ما كنا نعمل من سوء ) [ النحل : 28 ] وقولهم : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] فيكذبون في مواطن ، وفي مواطن يعترفون على أنفسهم بالكفر ويسألون الرجعة وهو قولهم : ( ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ) [ الأنعام : 27 ] وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم وجلودهم ، فنعوذ بالله من خزي ذلك اليوم .
الثاني : أن هذا الكتمان غير واقع ، بل هو داخل [ ص: 87 ] في التمني على ما بينا .
الثالث : أنهم لم يقصدوا الكتمان ، وإنما أخبروا على حسب ما توهموا ، وتقديره : والله ما كنا مشركين عند أنفسنا ، بل مصيبين في ظنوننا حتى تحققنا الآن . وسيجيء الكلام في هذه المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى .