[ ص: 187 ] ثم قال تعالى : ( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ، فيه قولان :
الأول : أن المراد منه المسلم ، وذلك لأنه تعالى ذكر أولا حال المسلم القاتل خطأ ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل الحرب ، ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل العهد وأهل الذمة ولا شك أن هذا ترتيب حسن فكان حمل اللفظ عليه جائزا ، والذي يؤكد صحة هذا القول أن قوله ( وإن كان ) لا بد من إسناده إلى شيء جرى ذكره فيما تقدم ، والذي جرى ذكره فيما تقدم هو المؤمن المقتول خطأ . فوجب حمل اللفظ عليه .
القول الثاني : أن المراد منه الذمي ، والتقدير : وإن كان المقتول من قوم بينكم وبينهم ميثاق ومعنى كون المقتول منهم أنه على دينهم ومذهبهم ، والقائلون بهذا القول طعنوا في القول الأول من وجوه :
الأول : أن المسلم المقتول خطأ سواء كان من أهل الحرب أو كان من أهل الذمة فهو داخل تحت قوله : ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ) فلو كان المراد من هذه الآية هو المؤمن لكان هذا عطفا للشيء على نفسه وأنه لا يجوز ، بخلاف ما إذا كان المؤمن المقتول خطأ من سكان دار الحرب ، فإنه تعالى إنما أعاده لبيان أنه لا تجب الدية في قتله ، وأما في هذه الآية فقد أوجب الدية والكفارة ، فلو كان المراد منه هو المؤمن لكان هذا إعادة وتكرارا من غير فائدة وإنه لا يجوز .
الثاني : أنه لو كان المراد منه ما ذكرتم لما كانت الدية مسلمة إلى أهله لأن أهله كفار لا يرثونه .
الثالث : أن قوله : ( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ) يقتضي أن يكونوا من ذلك القوم في الوصف الذي وقع التنصيص عليه وهو حصول الميثاق بينهما ، فإن كونه منهم مجمل لا يدري أنه منهم في أي الأمور ، وإذا حملناه على كونه منهم في ذلك الوصف زال الإجمال فكان ذلك أولى ، وإذا دلت الآية على أنه منهم في كونه معاهدا وجب أن يكون ذميا أو معاهدا مثلهم ويمكن أن يجاب عن هذه الوجوه :
أما الأول : فجوابه أنه تعالى ذكر حكم المؤمن المقتول على سبيل الخطأ ، ثم ذكر أحد قسميه وهو ، فبين أن الدية لا تجب في قتله ، وذكر القسم الثاني وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان مواضع المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان دار الحرب أهل الذمة ، وبين وجوب الدية والكفارة في قتله ، والغرض منه إظهار الفرق بين هذا القسم وبين ما قبله .
وأما الثاني : فجوابه أن أهله هم المسلمون الذين تصرف ديته إليهم .
وأما الثالث : فجوابه أن كلمة " من " صارت مفسرة في الآية السابقة بكلمة " في " يعني في قوم عدو لكم ، فكذا ههنا يجب أن يكون المعنى ذلك لا غير .
واعلم أن فائدة هذا البحث تظهر في مسألة شرعية ، وهي أن مذهب أن أبي حنيفة مثل دية المسلم ، وقال دية الذمي رحمه الله تعالى : دية اليهودي والنصراني ثلث دية المجوسي ، الشافعي ثلثا عشر دية المسلم . واحتج ودية المجوسي على قوله بهذه الآية : ( أبو حنيفة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ) المراد به الذمي ، ثم قال : ( فدية مسلمة إلى أهله ) فأوجب تعالى فيهم تمام الدية ، ونحن نقول : أنا بينا أن الآية نازلة [ ص: 188 ] في حق المؤمنين لا في حق أهل الذمة فسقط الاستدلال ، وأيضا بتقدير أن يثبت لهم أنها نازلة في أهل الذمة لم تدل على مقصودهم ، لأنه تعالى أوجب في هذه الآية دية مسلمة ، فهذا يقتضي إيجاب شيء من الأشياء التي تسمى دية ، فلم قلتم إن الدية التي أوجبها في حق الذمي هي الدية التي أوجبها في حق المسلم ؟ ولم لا يجوز أن تكون دية المسلم مقدارا معينا . ودية الذمي مقدارا آخر ؟ فإن الدية لا معنى لها إلا المال الذي يؤدى في مقابلة النفس ، فإن ادعيتم أن مقدار الدية في حق المسلم وفي حق الذمي واحد فهو ممنوع ، والنزاع ما وقع إلا فيه ، فسقط هذا الاحتجاج والله أعلم .
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : لم قدم تحرير الرقبة على الدية في الآية الأولى وههنا عكس هذا الترتيب ، إذ لو أفاده لتوجه الطعن في إحدى الآيتين فصار هذا كقوله : ( وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ) [ البقرة : 58 ] وفي آية أخرى ( وقولوا حطة وادخلوا الباب ) [ الأعراف : 161 ] والله أعلم .
المسألة الثالثة : في هؤلاء الذين بيننا وبينهم ميثاق قولان :
الأول : قال رضي الله عنهما : هم ابن عباس أهل الذمة من أهل الكتاب .
الثاني : قال الحسن : هم المعاهدون من الكفار .