الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ) وفيه سؤال ، وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة ، والعاجز عن الشيء غير مكلف به ، وإذا لم يكن مكلفا به لم يكن عليه في تركه عقوبة ، فلم قال : ( عسى الله أن يعفو عنهم ) والعفو لا يتصور إلا مع الذنب ، وأيضا " عسى " كلمة الإطماع ، وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : أن المستضعف قد يكون قادرا على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة ، وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة شاق ومشتبه ، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك ، ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس ، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزا مع أنه لا يكون كذلك ، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما السؤال الثاني : وهو قوله : ما الفائدة في ذكر لفظة " عسى " ههنا ؟ فنقول : الفائدة فيها الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه ، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني ، فكيف الحال في غيره . هذا هو الذي ذكره صاحب "الكشاف" في الجواب عن هذا السؤال ، إلا أن الأولى أن يكون الجواب ما قدمناه ، وهو أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزا عنها مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة ، فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة " عسى " لا بالكلمة الدالة على القطع .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وكان الله عفوا غفورا ) . ذكر الزجاج في " كان " ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : كان قبل أن خلق الخلق موصوفا بهذه الصفة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه قال ( كان ) مع أن جميع العباد بهذه الصفة ، والمقصود بيان أن هذه عادة الله تعالى أجراها في حق خلقه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : لو قال : إنه تعالى عفو غفور كان هذا إخبارا عن كونه كذلك فقط ، ولما قال : إنه كان كذلك كان هذا إخبارا وقع مخبره على وفقه ، فكان ذلك أدل على كونه صدقا وحقا ومبرأ عن الخلف والكذب . واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة ، فإنه لو لم يحصل ههنا شيء من الذنب لامتنع حصول العفو والمغفرة فيه ، فلما أخبر بالعفو والمغفرة دل على حصول الذنب ، ثم إنه تعالى وعد بالعفو مطلقا غير مقيد بحال التوبة فيدل على ما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية