المسألة الثامنة : ذكر بعض أصحابنا قولين  للشافعي  في أن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي آية من أوائل سائر السور أم لا  ؟ أما المحققون من الأصحاب فقد اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السور ، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من أول كل سورة أو هي وما بعدها آية ، وقال بعض الحنفية : إن  الشافعي  خالف الإجماع في هذه المسألة ؛ لأن أحدا ممن قبله لم يقل : إن بسم الله آية من أوائل سائر السور . ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخط القرآن ، فوجب كونه قرآنا ، واحتج المخالف بما روى  أبو هريرة  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سورة الملك : إنها ثلاثون آية ، وفي سورة الكوثر : إنها ثلاث آيات ، ثم أجمعوا على أن هذا العدد حاصل بدون التسمية ، فوجب أن لا تكون التسمية آية من هذه السور ، والجواب أنا إذا قلنا بسم الله الرحمن الرحيم مع ما بعده آية واحدة فهذا الإشكال زائل ، فإن قالوا : لما اعترفتم بأنها آية تامة من أول الفاتحة ، فكيف يمكنكم أن تقولوا : إنها بعض آية من سائر السور ؟ قلنا : هذا غير بعيد ، ألا ترى أن قوله : ( الحمد لله رب العالمين    ) آية تامة ، ثم صار مجموع قوله : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين    ) [ يونس : 10 ] آية واحدة ؛ فكذا هاهنا . وأيضا فقوله : سورة الكوثر ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ، ثلاث آيات ، وأما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السور ، فسقط هذا السؤال . 
المسألة التاسعة : يروى عن أحمد بن حنبل  أنه قال : التسمية آية من الفاتحة ، إلا أنه يسر بها في كل ركعة . وأما  الشافعي  فإنه قال : إنها آية منها ويجهر بها ، وقال  أبو حنيفة    : ليست آية من الفاتحة ، إلا أنها يسر بها في كل ركعة ولا يجهر بها أيضا ، فنقول : الجهر بها سنة ، ويدل عليه وجوه وحجج . 
الحجة الأولى : قد دللنا على أن التسمية آية من الفاتحة ، وإذا ثبت هذا فنقول : الاستقراء دل على أن السورة الواحدة إما أن تكون بتمامها سرية أو جهرية ، فأما أن يكون بعضها سريا وبعضها جهريا ، فهذا مفقود في جميع السور ؛ وإذا ثبت هذا كان الجهر بالتسمية مشروعا في القراءة الجهرية    . 
الحجة الثانية : أن قوله : بسم الله الرحمن الرحيم لا شك أنه ثناء على الله وذكر له بالتعظيم  ، فوجب أن يكون الإعلان به مشروعا لقوله تعالى : ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا    ) [ البقرة : 200 ] ومعلوم أن الإنسان إذا كان مفتخرا بأبيه غير مستنكف منه فإنه يعلن بذكره ويبالغ في إظهاره ، أما إذا أخفى ذكره أو أسره دل ذلك على كونه مستنكفا منه ، فإذا كان المفتخر بأبيه يبالغ في الإعلان والإظهار وجب أن يكون إعلان ذكر   [ ص: 168 ] الله أولى عملا بقوله : ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا    ) . 
الحجة الثالثة : هي أن الجهر بذكر الله يدل على كونه مفتخرا بذلك الذكر غير مبال بإنكار من ينكره ، ولا شك أن هذا مستحسن في العقل ، فيكون في الشرع كذلك ؛ لقوله عليه السلام : " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن   " ومما يقوي هذا الكلام أيضا أن الإخفاء والسر لا يليق إلا بما يكون فيه عيب ونقصان ، فيخفيه الرجل ويسره ؛ لئلا ينكشف ذلك العيب . أما الذي يفيد أعظم أنواع الفخر والفضيلة والمنقبة فكيف يليق بالعقل إخفاؤه ؟ ومعلوم أنه لا منقبة للعبد أعلى وأكمل من كونه ذاكرا لله بالتعظيم  ؛ ولهذا قال عليه السلام : " طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله   " وكان  علي بن أبي طالب  عليه السلام يقول : يا من ذكره شرف للذاكرين   . ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه ؟ ولهذا السبب نقل أن عليا  رضي الله عنه كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات  ، وأقول : إن هذه الحجة قوية في نفسي ، راسخة في عقلي ، لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين . 
الحجة الرابعة : ما رواه  الشافعي  بإسناده ، أن معاوية  قدم المدينة  ، فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود ، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار : يا معاوية  ، سرقت منا الصلاة ، أين بسم الله الرحمن الرحيم ؟ وأين التكبير عند الركوع والسجود ؟ ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير   . قال  الشافعي    : إن معاوية  كان سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار وإلا لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية . 
الحجة الخامسة : روى  البيهقي  في السنن الكبير عن  أبي هريرة  قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ، ثم إن الشيخ  البيهقي  روى الجهر عن  عمر بن الخطاب  ،  وابن عباس  ،  وابن عمر  ، وابن الزبير  ، وأما أن  علي بن أبي طالب  رضي الله عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب  فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله عليه السلام : اللهم أدر الحق مع علي  حيث دار   . 
الحجة السادسة : أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم يتعلق بفعل لا بد من إضماره ، والتقدير : بإعانة اسم الله اشرعوا في الطاعات ، أو ما يجري مجرى هذا المضمر ، ولا شك أن استماع هذه الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ، وينبه العقل على أنه لا يتم شيء من الخيرات والبركات إلا إذا وقع الابتداء فيه بذكر الله ، ومن المعلوم أن المقصود من جميع العبادات والطاعات حصول هذه المعاني في العقول ، فإذا كان استماع هذه الكلمة يفيد هذه الخيرات الرفيعة والبركات العالية دخل هذا القائل تحت قوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر    ) ؛ لأن هذا القائل بسبب إظهار هذه الكلمة أمر بما هو أحسن أنواع الأمر بالمعروف ، وهو الرجوع إلى الله بالكلية والاستعانة بالله في كل الخيرات ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يقول إنه بدعة ؟ 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					