الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الخامسة عشرة : تمسكت الجبرية والقدرية بقوله : الحمد لله ؛ أما الجبرية فقد تمسكوا به من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن كل من كان فعله أشرف وأكمل ، وكانت النعمة الصادرة عنه أعلى وأفضل ، كان استحقاقه للحمد أكثر ، ولا شك أن أشرف المخلوقات هو الإيمان ، فلو كان الإيمان فعلا للعبد لكان استحقاق العبد للحمد أولى وأجل من استحقاق الله له ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الإيمان حصل بخلق الله لا بخلق العبد .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أجمعت الأمة على قولهم : الحمد لله على نعمة الإيمان ، لو كان الإيمان فعلا للعبد وما كان فعلا لله لكان قولهم : الحمد لله على نعمة الإيمان باطلا ، فإن حمد الفاعل على ما لا يكون فعلا له باطل قبيح ؛ لقوله تعالى : ( ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ) [ آل عمران : 188 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنا قد دللنا على أن قوله : الحمد لله يدل ظاهره على أن كل الحمد لله ، وأنه ليس لغير الله حمد أصلا ، وإنما يكون كل الحمد لله لو كان كل النعم من الله ، والإيمان أفضل النعم ، فوجب أن يكون الإيمان من الله .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن قوله : الحمد لله مدح منه لنفسه ، ومدح النفس مستقبح فيما بين الخلق ، فلما بدأ كتابه بمدح النفس دل ذلك على أن حاله بخلاف حال الخلق ، وأنه يحسن من الله ما يقبح من الخلق ، وذلك يدل على أنه تعالى مقدس عن أن تقاس أفعاله على أفعال الخلق ، فقد تقبح أشياء من العباد ولا تقبح تلك الأشياء من الله تعالى ، وهذا يهدم أصول الاعتزال بالكلية .

                                                                                                                                                                                                                                            والخامس : أن عند المعتزلة أفعاله تعالى يجب أن تكون حسنة ، ويجب أن تكون لها صفة زائدة على الحسن ، وإلا كانت عبثا ، وذلك في حقه محال ، والزائدة على الحسن إما أن تكون واجبة ، وإما أن تكون من باب التفضل : أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين ، وأما الذي يكون من باب التفضل فهو مثل أنه يزيد على قدر الواجب على سبيل الإحسان ، فنقول : هذا يقدح في كونه تعالى مستحقا للحمد ويبطل صحة قولنا : الحمد لله ، وتقريره أن نقول : أما أداء الواجبات فإنه لا يفيد استحقاق الحمد ، ألا ترى أن من كان له على غيره دين دينار فأداه فإنه لا يستحق الحمد ، فلو وجب على الله فعل لكان ذلك الفعل مخلصا له عن الذم ولا يوجب استحقاقه للحمد ، وأما فعل التفضل فعند الخصم أنه يستفيد بذلك مزيد حمد ؛ لأنه لو لم يصدر عنه ذلك الفعل لما حصل له ذلك الحمد ، وإذا كان كذلك كان ناقصا لذاته مستكملا بغيره ، وذلك يمنع من كونه تعالى مستحقا للحمد [ ص: 185 ] والمدح .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : قوله : ( الحمد لله ) يدل على أنه تعالى محمود ، فنقول : استحقاقه الحمد والمدح إما أن يكون أمرا ثابتا له لذاته أو ليس ثابتا لذاته ، فإن كان الأول امتنع أن يكون شيء من الأفعال موجبا له استحقاق المدح ؛ لأن ما ثبت لذاته امتنع ثبوته لغيره ، وامتنع أيضا أن يكون شيء من الأفعال موجبا له استحقاق الذم ؛ لأن ما ثبت لذاته امتنع ارتفاعه بسبب غيره ، وإذا كان كذلك لم يتقرر في حقه تعالى وجوب شيء عليه ، فوجب أن لا يجب للعباد عليه شيء من الأعواض والثواب ، وذلك يهدم أصول المعتزلة ، وأما القسم الثاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتا له لذاته - فنقول : فيلزم أن يكون ناقصا لذاته مستكملا بغيره ، وذلك على الله محال ، أما المعتزلة فقالوا : إن قوله : الحمد لله لا يتم إلا على قولنا ؛ لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبيح في فعله ، ولا جور في أقضيته ، ولا ظلم في أحكامه ، وعندنا أن الله تعالى كذلك ، فكان مستحقا لأعظم المحامد والمدائح ، أما على مذهب الجبرية لا قبيح إلا وهو فعله ، ولا جور إلا وهو حكمه ، ولا عبث إلا وهو صنعه ؛ لأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ، ويؤلم الحيوانات من غير أن يعوضها ، فكيف يعقل على هذا التقدير كونه مستحقا للحمد ؟ وأيضا فذلك الحمد الذي يستحقه الله تعالى بسبب الإلهية إما أن يستحقه على العبد ، أو على نفسه ، فإن كان الأول وجب كون العبد قادرا على الفعل ، وذلك يبطل القول بالجبر ، وإن كان الثاني كان معناه أن الله يجب عليه أن يحمد نفسه ، وذلك باطل ، قالوا : فثبت أن القول بالحمد لله لا يصح إلا على قولنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة السادسة عشرة : اختلفوا في أن وجوب الشكر ثابت بالعقل أو بالسمع ؛ من الناس من قال : إنه ثابت بالسمع ؛ لقوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) [ الإسراء : 15 ] ولقوله تعالى : ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ النساء : 165 ] ومنهم من قال : إنه ثابت قبل مجيء الشرع وبعد مجيئه على الإطلاق ، والدليل عليه قوله تعالى : ( الحمد لله ) وبيانه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله : ( الحمد لله ) يدل أن هذا الحمد حقه وملكه على الإطلاق ، وذلك يدل على ثبوت هذا الاستحقاق قبل مجيء الشرع .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه تعالى قال : ( الحمد لله رب العالمين ) وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف ، فهاهنا أثبت الحمد لنفسه ، ووصف نفسه بكونه تعالى ربا للعالمين رحمانا رحيما بهم ، مالكا لعاقبة أمرهم في القيامة ، فهذا يدل على أن استحقاق الحمد إنما يحصل لكونه تعالى مربيا لهم رحمانا رحيما بهم ، وإذا كان كذلك ثبت أن استحقاق الحمد ثابت لله تعالى في كل الأوقات سواء كان قبل مجيء النبي أو بعده .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة السابعة عشرة : يجب علينا أن نبحث عن حقيقة الحمد وماهيته فنقول : تحميد الله تعالى ليس عبارة عن قولنا : الحمد لله ؛ لأن قولنا : الحمد لله إخبار عن حصول الحمد ، والإخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه ، فوجب أن يكون تحميد الله مغايرا لقولنا : الحمد لله ، فنقول : حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعما . وذلك الفعل إما أن يكون فعل القلب ، أو فعل اللسان ، أو فعل الجوارح ، أما فعل القلب فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفا بصفات الكمال والإجلال ، وأما فعل اللسان فهو أن يذكر ألفاظا دالة على كونه موصوفا بصفات الكمال ، وأما فعل الجوارح فهو أن يأتي بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفا بصفات الكمال والإجلال ، فهذا هو المراد من الحمد ، واعلم أن أهل العلم افترقوا في هذا المقام [ ص: 186 ] فريقين : الفريق الأول : الذين قالوا : إنه لا يجوز أن يأمر الله عبيده بأن يحمدوه ، واحتجوا عليه بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن ذلك التحميد إما أن يكون بناء على إنعام وصل إليهم أو لا ، وبناء عليه ، فالأول باطل ؛ لأن هذا يقتضي أنه تعالى طلب منهم على إنعامه جزاء ومكافأة ، وذلك يقدح في كمال الكرم ، فإن الكريم إذا أنعم لم يطلب المكافأة ، وأما الثاني فهو إتعاب للغير ابتداء ، وذلك يوجب الظلم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قالوا : الاشتغال بهذا الحمد متعب للحامد وغير نافع للمحمود ؛ لأنه كامل لذاته والكامل لذاته يستحيل أن يستكمل بغيره ، فثبت أن الاشتغال بهذا التحميد عبث وضرر ، فوجب أن لا يكون مشروعا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن معنى الإيجاب هو أنه لو لم يفعل لاستحق العقاب ، فإيجاب حمد الله تعالى معناه أنه قال : لو لم تشتغل بهذا الحمد لعاقبتك ، وهذا الحمد لا نفع له في حق الله ، فكان معناه أن هذا الفعل لا فائدة فيه لأحد ، ولو تركته لعاقبتك أبد الآباد ، وهذا لا يليق بالحكم الكريم . الفريق الثاني : قالوا : الاشتغال بحمد الله سوء أدب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه يجري مجرى مقابلة إحسان الله بذلك الشكر القليل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الاشتغال بالشكر لا يتأتى إلا مع استحضار تلك النعم في القلب واشتغال القلب بالنعم يمنعه من الاستغراق في معرفة المنعم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الثناء على الله تعالى عند وجدان النعمة يدل على أنه إنما أثنى عليه لأجل الفوز بتلك النعم ، وذلك يدل على أن مقصوده من العبادة والحمد والثناء الفوز بتلك النعم ، وهذا الرجل في الحقيقة معبوده ومطلوبه إنما هو تلك النعمة وحظ النفس ، وذلك مقام نازل ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية