الفائدة الثالثة : أنه قال : " إذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى ذكرني عبدي " وفيه أحكام : أحدها : أنه تعالى قال : ( فاذكروني أذكركم ) [ البقرة : 152 ] فههنا لما أقدم العبد على ذكر الله لا جرم ذكره تعالى في ملأ خير من ملئه .
وثانيها : أن هذا يدل على أن ؛ لأنه وقع الابتداء به ، ومما يدل على كماله أنه تعالى أمر بالذكر فقال : ( مقام الذكر مقام عال شريف في العبودية فاذكروني أذكركم ) [ البقرة : 152 ] ثم قال : ( ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ) [ الأحزاب : 41 ] ثم قال : ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) [ آل عمران : 191 ] ثم قال : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) [ الأعراف : 201 ] فلم يبالغ في تقرير شيء من مقامات العبودية مثل ما بالغ في تقرير مقام الذكر .
وثالثها : أن قوله : " " يدل على أن قولنا " الله " اسم علم لذاته المخصوصة ، إذ لو كان اسما مشتقا لكان مفهومه مفهوما كليا ، ولو كان كذلك لما صارت ذاته المخصوصة المعينة مذكورة بهذا اللفظ ، فظاهر أن لفظي الرحمن الرحيم لفظان كليان ، فثبت أن قوله " ذكرني عبدي " يدل على أن قولنا " الله " اسم علم ، أما قوله : " ذكرني عبدي " فهذا يدل على أن وإذا قال الحمد لله يقول الله تعالى حمدني عبدي ، ويدل عليه أن أول كلام ذكر في أول خلق العالم هو الحمد ، بدليل قول الملائكة قبل خلق مقام الحمد أعلى من مقام الذكر آدم : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) [ البقرة : 30 ] وآخر كلام يذكر بعد فناء العالم هو الحمد أيضا ، بدليل قوله تعالى في صفة أهل الجنة : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] والعقل أيضا يدل عليه ؛ لأن الفكر في ذات الله غير ممكن ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق " ولأن الفكر في الشيء مسبوق بسبق تصوره ، وتصور كنه حقيقة الحق غير ممكن ، فالفكر فيه غير ممكن ، فعلى هذا الفكر لا يمكن إلا في أفعاله ومخلوقاته ، ثم ثبت بالدليل أن الخير مطلوب بالذات والشر بالعرض ، فكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر ، فلا جرم كان اشتغاله بالحمد والشكر أكثر ، فلهذا قال : الحمد لله رب العالمين ، وعند هذا يقول : حمدني عبدي ، فشهد الحق سبحانه بوقوف العبد بعقله وفكره على وجود فضله وإحسانه في ترتيب العالم الأعلى والعالم الأسفل ، وعلى أن لسانه صار موافقا لعقله ومطابقا له ، وإن غرق في بحر الإيمان به والإقرار بكرمه بقلبه ولسانه وعقله وبيانه ، فما أجل هذه الحالة .
وأما قوله : " الرحمن الرحيم " يقول الله عظمني عبدي " فلقائل أن يقول : إنه لما قال بسم الله الرحمن الرحيم فقد ذكر الرحمن الرحيم وهناك لم يقل الله عظمني عبدي ، وههنا لما قال " وإذا قال " الرحمن الرحيم " [ ص: 219 ] قال عظمني عبدي فما الفرق ؟ وجوابه أن قوله الحمد لله دل على إقرار العبد بكماله في ذاته ، وبكونه مكملا لغيره ، ثم قال بعده : " رب العالمين " ، وهذا يدل على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره واحد ليس له شريك ، فلما قال بعده : " الرحمن الرحيم " دل ذلك على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره المنزه عن الشريك والنظير والمثل والضد والند في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام ، فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا : عظمني عبدي .
وأما قوله : " مالك يوم الدين " يقول الله مجدني عبدي " أي : نزهني وقدسني عما لا ينبغي - فتقريره أنا نرى في دار الدنيا كون الظالمين متسلطين على المظلومين ، وكون الأقوياء مستولين على الضعفاء ، ونرى العالم الزاهد الكامل في أضيق العيش ، ونرى الكافر الفاسق في أعظم أنواع الراحة والغبطة ، وهذا العمل لا يليق برحمة أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين ، فلو لم يحصل المعاد والبعث والحشر حتى ينتصف الله فيه للمظلومين من الظالمين ويوصل إلى أهل الطاعة الثواب ، وإلى أهل الكفر العقاب ، لكان هذا الإهمال والإمهال ظلما من الله على العباد ، أما لما حصل يوم الجزاء ويوم الدين اندفع وهم الظلم ، فلهذا السبب قال الله تعالى : ( وإذا قال " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) [ النجم : 31 ] وهذا هو المراد من قوله تعالى : ، الذي نزهني عن الظلم وعن شيمه . وأما قوله : " مجدني عبدي إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي " فهو إشارة إلى سر مسألة الجبر والقدر ، فإن قوله وإذا قال العبد إياك نعبد معناه إخبار العبد عن إقدامه على عمل الطاعة والعبادة ، ثم جاء بحث الجبر والقدر : وهو أنه مستقل بالإتيان بذلك العمل أو غير مستقل به ، والحق أنه غير مستقل به ، وذلك لأن قدرة العبد إما أن تكون صالحة للفعل والترك ، وإما أن لا تكون كذلك : فإن كان الحق هو الأول امتنع أن تصير تلك القدرة مصدرا للفعل دون الترك إلا لمرجح ، وذلك المرجح إن كان من العبد عاد البحث فيه ، وإن لم يكن من العبد فهو من الله تعالى ، فخلق تلك الداعية الخالصة عن المعارض هو الإعانة ، وهو المراد من قوله وإياك نستعين ، وهو المراد من قولنا ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، أي : لا تخلق في قلوبنا داعية تدعونا إلى العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة ، وهب لنا من لدنك رحمة ، وهذه الرحمة خلق الداعية التي تدعونا إلى الأعمال الصالحة والعقائد الحقة ، فهذا هو المراد من الإعانة والاستعانة ، وكل من لم يقل بهذا القول لم يفهم البتة معنى قوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وإذا ثبت هذا ظهر صحة قوله تعالى : ، أما الذي منه فهو خلق الداعية الجازمة ، وأما الذي من العبد فهو أن عند حصول مجموع القدرة والداعية يصدر الأثر عنه ، وهذا كلام دقيق لا بد من التأمل فيه . وأما قوله : " هذا بيني وبين عبدي اهدنا الصراط المستقيم يقول الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " وتقريره أنا نرى أهل العلم مختلفين في النفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية ، وفي جميع مسائل النبوات ، وفي جميع مسائل المعاد ، والشبهات غالبة ، والظلمات مستولية ، ولم يصل إلى كنه الحق إلا القليل القليل من الكثير الكثير ، وقد حصلت هذه الحالة مع استواء الكل في العقول والأفكار والبحث الكثير والتأمل الشديد ؛ فلولا وإذا قال كما قال : ( هداية الله تعالى وإعانته وأنه يزين الحق في عين عقل الطالب ويقبح الباطل في عينه ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ) [ الحجرات : 7 ] وإلا لامتنع وصول [ ص: 220 ] أحد إلى الحق ، فقوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) إشارة إلى هذه الحالة ، ويدل عليه أيضا أن المبطل لا يرضى بالباطل ، وإنما طلب الاعتقاد الحق والدين المتين والقول الصحيح ، فلو كان الأمر باختياره لوجب أن لا يقع أحد في الخطأ ؛ ولما رأينا الأكثرين غرقوا في بحر الضلالات علمنا أن الوصول إلى الحق ليس إلا بهداية الله تعالى ، ومما يقوي ذلك أن كل الملائكة والأنبياء أطبقوا على ذلك ، أما الملائكة فقالوا : ( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) [ البقرة : 32 ] وقال آدم عليه السلام : ( وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) [ الأعراف : 23 ] وقال إبراهيم عليه السلام : ( لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ) [ الأنعام : 77 ] ، وقال يوسف عليه السلام : ( توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) [ يوسف : 101 ] ، وقال موسى عليه السلام : ( رب اشرح لي صدري ) الآية [ طه : 25 ] ، وقال محمد عليه السلام : ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) [ آل عمران : 8 ] فهذا هو الكلام في لطائف هذا الخبر والذي تركناه أكثر مما ذكرناه .
الفائدة الرابعة : من فوائد هذا الخبر : أن ، وهي : القيام ، والركوع ، والانتصاب ، والسجود الأول ، والانتصاب فيه ، والسجود الثاني ، والقعدة ، فصار عدد آيات الفاتحة مساويا لعدد هذه الأعمال ، فصارت هذه الأعمال كالشخص ، والفاتحة لها كالروح ، والكمال إنما يحصل عند اتصال الروح بالجسد ، فقوله : ( آيات الفاتحة سبع ، والأعمال المحسوسة أيضا في الصلاة سبعة بسم الله الرحمن الرحيم ) بإزاء القيام ، ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله بقي قائما مرتفعا ، وأيضا فالتسمية لبداية الأمور ، قال عليه الصلاة والسلام : " " وقال تعالى : ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ) [ الأعلى : 14 ] وأيضا القيام لبداية الأعمال ، فحصلت المناسبة بين التسمية وبين القيام من هذه الوجوه ، وقوله تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) بإزاء الركوع ، وذلك لأن العبد في مقام التحميد ناظر إلى الحق وإلى الخلق ؛ لأن التحميد عبارة عن الثناء بسبب الإنعام الصادر منه ، والعبد في هذا المقام ناظر إلى المنعم وإلى النعمة ، فهو حالة متوسطة بين الإعراض وبين الاستغراق ، والركوع حالة متوسطة بين القيام وبين السجود ، وأيضا الحمد يدل على النعم الكثيرة ، والنعم الكثيرة مما تثقل ظهره ، فينحني ظهره للركوع ، وقوله : ( الرحمن الرحيم ) مناسب للانتصاب لأن العبد لما تضرع إلى الله في الركوع فيليق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ، ولذلك قال عليه السلام : " إذا قال العبد سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة " . وقوله : ( مالك يوم الدين ) مناسب للسجدة الأولى ؛ لأن قولك مالك يوم الدين يدل على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد فيليق به الإتيان بغاية الخضوع والخشوع وهو السجدة . وقوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) مناسب للقعدة بين السجدتين ؛ لأن قوله إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت ، وقوله وإياك نستعين استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية .
وأما قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) فهو سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية الدالة على نهاية الخضوع . وأما قوله : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) إلى آخره ، فهو مناسب للقعدة ، وذلك لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابل الله تواضعه بالإكرام ، وهو أن أمره بالقعود بين يديه ، وذلك إنعام عظيم من الله على العبد ، فهو شديد المناسبة لقوله أنعمت عليهم ، وأيضا إن محمدا عليه السلام لما أنعم الله عليه بأن رفعه إلى قاب قوسين قال عند ذلك : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، ، فلما [ ص: 221 ] وصل المؤمن في معراجه إلى غاية الإكرام - وهي أن جلس بين يدي الله - وجب أن يقرأ الكلمات التي ذكرها والصلاة معراج المؤمن محمد عليه السلام ، فهو أيضا يقرأ التحيات ، ويصير هذا كالتنبيه على أن هذا المعراج الذي حصل له شعلة من شمس معراج محمد عليه السلام وقطرة من بحره وهو تحقيق قوله : ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) الآية [ النساء : 69 ] .
واعلم أن آيات الفاتحة وهي سبع صارت كالروح لهذه الأعمال السبعة ، وهذه الأعمال السبعة صارت كالروح للمراتب السبعة المذكورة في خلقة الإنسان ، وهي قوله : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) [ المؤمنون : 12 ] إلى قوله : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) [ المؤمنون : 14 ] وعند هذا ينكشف أن مراتب الأجساد كثيرة ، ومراتب الأرواح كثيرة ، وروح الأرواح ونور الأنوار هو الله تعالى ، كما قال سبحانه وتعالى : ( وأن إلى ربك المنتهى ) [ النجم : 42 ] .