المسألة الثالثة : قال : ابن عباس المدينة ، اشتد الضرر عليهم ; لأنهم خرجوا بلا مال ، وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين ، وأظهرت لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم ( أم حسبتم ) وقال قتادة والسدي : نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والحزن ، وكان كما قال سبحانه وتعالى : ( وبلغت القلوب الحناجر ) [الأحزاب : 10] وقيل : نزلت في حرب أحد لما قال عبد الله بن أبي لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : إلى متى تقتلون أنفسكم وترجون الباطل ، ولو كان محمد نبيا لما سلط الله عليكم الأسر والقتل ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
واعلم أن تقدير الآية : أم حسبتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان بي وتصديق رسولي ، دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبدكم به ، وابتلاكم بالصبر عليه ، وأن ينالكم من أذى الكفار ، ومن احتمال الفقر والفاقة ، ومكابدة الضر والبؤس في المعيشة ، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدو ، كما كان كذلك من قبلكم من المؤمنين ، وهو المراد من قوله : ( ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ) والمثل هو المثل وهو الشبه ، وهما لغتان : مثل ومثل وشبه وشبه ، إلا أن المثل مستعار لحالة غريبة أو قصة عجيبة لها شأن ، ومنه قوله تعالى : ( ولله المثل الأعلى ) [النحل : 60] أي الصفة التي لها شأن عظيم .
واعلم أن في الكلام حذفا تقديره : مثل محنة الذين من قبلكم ، وقوله : ( مستهم ) بيان للمثل ، وهو استئناف كأن قائلا قال : فكيف كان ذلك المثل ؟ فقال : ( مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ) .
أما ( البأساء ) فهو اسم من البؤس بمعنى الشدة وهو الفقر والمسكنة ، ومنه يقال : فلان في بؤس وشدة . [ ص: 18 ]
وأما ( الضراء ) فالأقرب فيه أنه ورود المضار عليه من الآلام والأوجاع وضروب الخوف ، وعندي أن البأساء عبارة عن تضييق جهات الخير والمنفعة عليه ، والضراء عبارة عن انفتاح جهات الشر والآفة والألم عليه .
وأما قوله : ( وزلزلوا ) أي حركوا بأنواع البلايا والرزايا ، قال الزجاج : أصل الزلزلة في اللغة من أزال الشيء عن مكانه ، فإذا قلت : زلزلته فتأويله أنك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه ، وكل ما كان فيه تكرير كررت فيه فاء الفعل ، نحو صر وصرصر ، وصل وصلصل ، وكف وكفكف ، وأقل الشيء ، أي رفعه من موضعه ، فإذا كرر قيل : قلقل ، وفسر بعضهم ( وزلزلوا ) ههنا بخوفوا ، وحقيقته غير ما ذكرنا ; وذلك لأن الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه ، ولذلك لا يقال ذلك إلا في الخوف المقيم المقعد ; لأنه يذهب السكون ، فيجب أن يكون زلزلوا ههنا مجازا ، والمراد : خوفوا ، ويجوز أن يكونوا مضطربين لا يستقرون لما في قلوبهم من الجزع والخوف ، ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الأشياء ذكر شيئا آخر وهو النهاية في الدلالة على كمال الضر والبؤس والمحنة ، فقال : ( حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) وذلك لأن ، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا ، كان ذلك هو الغاية القصوى في الشدة ، فلما بلغت بهم الشدة إلى هذه الدرجة العظيمة قيل لهم : ( الرسل عليهم السلام يكونون في غاية الثبات والصبر وضبط النفس عند نزول البلاء ألا إن نصر الله قريب ) إجابة لهم إلى طلبهم ، فتقدير الآية : هكذا كانت حالهم إلى أن أتاهم نصر الله ولم يغيرهم طول البلاء عن دينهم ، وأنتم يا معشر المسلمين كونوا على ذلك وتحملوا الأذى والمشقة في طلب الحق ، فإن نصر الله قريب ; لأنه آت ، وكل ما هو آت قريب ، وهذه الآية مثل قوله : ( الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله ) [العنكبوت : 2] وقال : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) [آل عمران : 142] والمقصود من هذه الآية ما ذكرنا أن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينالهم الأمر العظيم من البأساء والضراء من المشركين والمنافقين واليهود ، ولما أذن لهم في القتال نالهم من الجراح وذهاب الأموال والنفوس ما لا يخفى ، فعزاهم الله في ذلك وبين أن حال من قبلهم في طلب الدين كان كذلك ، والمصيبة إذا عمت طابت ، وذكر الله من قصة إبراهيم عليه السلام وإلقائه في النار ، ومن أمر أيوب عليه السلام وما ابتلاه الله به ، ومن أمر سائر الأنبياء عليهم السلام في مصابرتهم على أنواع البلاء ما صار ذلك في سلوة المؤمنين .
روى قيس بن أبي حازم ، قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نلقى من المشركين ، فقال : "إن من كان قبلكم من الأمم كانوا يعذبون بأنواع البلاء فلم يصرفهم ذلك عن دينهم ، حتى إن الرجل يوضع على رأسه المنشار فيشق فلقتين ، ويمشط الرجل بأمشاط الحديد فيما دون العظم من لحم وعصب وما يصرفه ذلك عن دينه ، وايم الله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين خباب بن الأرت صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون" . عن