الركن الرابع من أركان هذا الباب : الكلام في المستعاذ منه وهو الشيطان ، دفع شر الشيطان ، واعلم أن شر الشيطان إما أن يكون بالوسوسة أو بغيرها ، كما ذكره في قول الله تعالى : ( والمقصود من الاستعاذة كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) [ البقرة : 275 ] وفي هذا الباب مسائل غامضة دقيقة من العقليات ومن علوم المكاشفات .
المسألة الأولى : اختلف الناس في فمن الناس من أنكر الجن والشياطين ، واعلم أنه لا بد أولا من البحث عن وجود الجن والشياطين فنقول : أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة تجيء وتذهب مثل الناس والبهائم ، بل القول المحصل فيه قولان : ماهية الجن والشياطين
الأول أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، ولها عقول وأفهام وقدرة على أعمال صعبة شاقة .
والقول الثاني : أن كثيرا من الناس أثبتوا أنها موجودات غير متحيزة ولا حالة في المتحيز ، وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية ، ثم هذه الموجودات قد تكون عالية مقدسة عن تدبير الأجسام بالكلية ، وهي الملائكة المقربون ، كما قال الله تعالى : ( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ) [ الأنبياء : 19 ] ويليها مرتبة الأرواح المتعلقة بتدبير الأجسام ، وأشرفها حملة العرش ، كما قال تعالى : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) [ الحاقة : 17 ] والمرتبة الثانية الحافون حول العرش ، كما قال تعالى : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش ) [ الزمر : 75 ] والمرتبة الثالثة ملائكة الكرسي ، والمرتبة الرابعة ملائكة السماوات طبقة طبقة ، والمرتبة الخامسة ملائكة كرة الأثير ، والمرتبة السادسة ملائكة كرة الهواء الذي هو في طبع النسيم ، والمرتبة السابعة ملائكة كرة الزمهرير ، والمرتبة الثامنة مرتبة الأرواح المتعلقة بالبحار ، والمرتبة التاسعة مرتبة الأرواح المتعلقة بالجبال ، والمرتبة العاشرة مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية الموجودة في هذا العالم .
واعلم أنه على كلا القولين فهذه الأرواح قد تكون مشرقة إلهية خيرة سعيدة ، وهي المسماة بالصالحين من الجن ، وقد تكون كدرة سفلية شريرة شقية ، وهي المسماة بالشياطين .
[ ص: 71 ] واحتج بوجوه : المنكرون لوجود الجن والشياطين
الحجة الأولى : أن الشيطان لو كان موجودا لكان إما أن يكون جسما كثيفا أو لطيفا ، والقسمان باطلان فيبطل القول بوجوده وإنما قلنا أنه يمتنع أن يكون جسما كثيفا ؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يراه كل من كان سليم الحس ، إذ لو جاز أن يكون بحضرتنا أجسام كثيفة ونحن لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وشموس مضيئة ورعود وبروق مع أنا لا نشاهد شيئا منها ، ومن جوز ذلك كان خارجا عن العقل ، وإنما قلنا إنه لا يجوز كونها أجساما لطيفة ، وذلك لأنه لو كان كذلك لوجب أن تتمزق أو تتفرق عند هبوب الرياح العاصفة القوية ، وأيضا يلزم أن لا يكون لها قوة وقدرة على الأعمال الشاقة ، ومثبتو الجن ينسبون إليها الأعمال الشاقة ، ولما بطل القسمان ثبت فساد القول بالجن .
الحجة الثانية : أن هذه الأشخاص المسماة بالجن إذا كانوا حاضرين في هذا العالم مخالطين للبشر فالظاهر الغالب أن يصل لهم بسبب طول المخالطة والمصاحبة إما صداقة وإما عداوة ، فإن حصلت الصداقة وجب ظهور المنافع بسبب تلك الصداقة ، وإن حصلت العداوة وجب ظهور المضار بسبب تلك العداوة ، إلا أنا لا نرى أثرا لا من تلك الصداقة ولا من تلك العداوة وهؤلاء الذين يمارسون صنعة التعزيم إذا تابوا من الأكاذيب يعترفون بأنهم قط ما شاهدوا أثرا من هذا الجن ، وذلك مما يغلب على الظن عدم هذه الأشياء وسمعت واحدا ممن تاب على تلك الصنعة قال : إني واظبت على العزيمة الفلانية كذا من الأيام وما تركت دقيقة من الدقائق إلا أتيت بها ثم إني ما شاهدت من تلك الأحوال المذكورة أثرا ولا خبرا .
الحجة الثالثة : أن الطريق إلى معرفة الأشياء إما الحس ، وإما الخبر ، وإما الدليل :
أما الحس فلم يدل على وجود هذه الأشياء ؛ لأن وجودها إما بالصورة أو الصوت فإذا كنا لا نرى صورة ولا سمعنا صوتا فكيف يمكننا أن ندعي الإحساس بها ، والذين يقولون إنا أبصرناها أو سمعنا أصواتها فهم طائفتان : المجانين الذين يتخيلون أشياء بسبب خلل أمزجتهم فيظنون أنهم رأوا ، والكذابون المخرفون ، وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة إخبار الأنبياء والرسل فباطل ؛ لأن هذه الأشياء لو ثبتت لبطلت نبوة الأنبياء فإن على تقدير ثبوتها يجوز أن يقال : إن كل ما تأتي به الأنبياء من المعجزات إنما حصل بإعانة الجن والشياطين ، وكل فرع أدى إلى إبطال الأصل كان باطلا ، مثاله إذا جوزنا نفوذ الجن في بواطن الإنسان فلم لا يجوز أن يقال : إن حنين الجذع إنما كان لأجل أن الشيطان نفذ في ذلك الجذع ثم أظهر الحنين ولم لا يجوز أن يقال : إن الناقة إنما تكلمت مع الرسول - عليه السلام - لأن الشيطان دخل في بطنها وتكلم ، ولم لا يجوز أن يقال : إن الشجرة إنما انقلعت من أصلها ؛ لأن الشيطان اقتلعها ، فثبت أن القول بإثبات الجن والشياطين يوجب القول ببطلان نبوة الأنبياء عليهم السلام ، وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة الدليل والنظر فهو متعذر ، لأنا لا نعرف دليلا عقليا يدل على وجود الجن والشياطين ، فثبت أنه لا سبيل لنا إلى العلم بوجود هذه الأشياء ، فوجب أن يكون القول بوجود هذه الأشياء باطلا ، فهذه جملة شبه منكري الجن والشياطين .
والجواب عن الأولى : بأنا نقول : إن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسما ، فلم لا يجوز أن يقال أنه جوهر مجرد عن الجسمية .
واعلم أن القائلين بهذا القول فرق : الأولى الذين قالوا : النفوس الناطقة البشرية المفارقة للأبدان قد [ ص: 72 ] تكون خيرة ، وقد تكون شريرة ، فإن كانت خيرة فهي الملائكة الأرضية ، وإن كانت شريرة فهي الشياطين الأرضية ، ثم إذا حدث بدن شديد المشابهة ببدن تلك النفوس المفارقة وتعلق بذلك البدن نفس شديدة المشابهة لتلك النفس المفارقة فحينئذ يحدث لتلك النفس المفارقة ضرب تعلق بهذا البدن الحادث ، وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن على الأعمال اللائقة بها ، فإن كان النفسان من النفوس الطاهرة المشرفة الخيرة كانت تلك المعاونة والمعاضدة إلهاما ، وإن كانتا من النفوس الخبيثة الشريرة كانت تلك المعاونة والمناصرة وسوسة ، فهذا هو الكلام في الإلهام والوسوسة على قول هؤلاء .
الفريق الثاني : الذين قالوا : الجن والشياطين جواهر مجردة عن الجسمية وعلائقها ، وجنسها مخالف لجنس النفوس الناطقة البشرية ، ثم إن ذلك الجنس يندرج فيه أنواع أيضا ، فإن كانت طاهرة نورانية فهي الملائكة الأرضية ، وهم المسمون بصالحي الجن ، وإن كانت خبيثة شريرة فهي الشياطين المؤذية ، إذا عرفت هذا فنقول : الجنسية علة الضم ، فالنفوس البشرية الطاهرة النورانية تنضم إليها تلك الأرواح الطاهرة النورانية وتعينها على أعمالها التي هي من أبواب الخير والبر والتقوى ، والنفوس البشرية الخبيثة الكدرة تنضم إليها تلك الأرواح الخبيثة الشريرة وتعينها على أعمالها التي هي من باب الشر والإثم والعدوان .
الفريق الثالث : وهم الذين ينكرون وجود الأرواح السفلية ، ولكنهم أثبتوا وجود الأرواح المجردة الفلكية ، وزعموا أن تلك الأرواح أرواح عالية قاهرة قوية ، وهي مختلفة بجواهرها وماهياتها ، فكما أن لكل روح من الأرواح البشرية بدنا معينا فكذلك لكل روح من الأرواح الفلكية بدن معين ، وهو ذلك الفلك المعين ، وكما أن الروح البشرية تتعلق أولا بالقلب ثم بواسطته يتعدى أثر ذلك الروح إلى كل البدن ، فكذلك الروح الفلكي يتعلق أولا بالكواكب ثم بواسطة ذلك التعلق يتعدى أثر ذلك الروح إلى كلية ذلك الفلك وإلى كلية العالم ، وكما أنه يتولد في القلب والدماغ أرواح لطيفة وتلك الأرواح تتأدى في الشرايين والأعصاب إلى أجزاء البدن ويصل بهذا الطريق قوة الحياة والحس والحركة إلى كل جزء من أجزاء الأعضاء ، فكذلك ينبعث من جرم الكواكب خطوط شعاعية تتصل بجوانب العالم وتتأدى قوة تلك الكواكب بواسطة تلك الخطوط الشعاعية إلى أجزاء هذا العالم وكما أن بواسطة الأرواح الفائضة من القلب والدماغ إلى أجزاء البدن يحصل في كل جزء من أجزاء ذلك البدن قوى مختلفة وهي الغاذية والنامية والمولدة والحساسة - فتكون هذه القوى كالنتائج والأولاد لجوهر النفس المدبرة لكلية البدن ، فكذلك بواسطة الخطوط الشعاعية المنبثة من الكواكب الواصلة إلى أجزاء هذا العالم تحدث في تلك الأجزاء نفوس مخصوصة مثل نفس زيد ونفس عمرو ، وهذه النفوس كالأولاد لتلك النفوس الفلكية ، ولما كانت النفوس الفلكية مختلفة في جواهرها وماهياتها ، فكذلك النفوس المتولدة من نفس فلك زحل مثلا طائفة ، والنفوس المتولدة من نفس فلك المشتري طائفة أخرى ، فتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل متجانسة متشاركة ، ويحصل بينها محبة ، ومودة وتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل مخالفة بالطبع والماهية للنفوس المنتسبة إلى روح المشتري ، وإذا عرفت هذا فنقول : قالوا : إن العلة تكون أقوى من المعلول ، فلكل طائفة من النفوس البشرية طبيعة خاصة ، وهي تكون معلولة لروح من تلك الأرواح الفلكية وتلك الطبيعة تكون في الروح الفلكي أقوى وأعلى بكثير منها في هذه الأرواح البشرية ، وتلك الأرواح الفلكية بالنسبة إلى تلك الطائفة من الأرواح البشرية كالأب المشفق والسلطان الرحيم ، فلهذا السبب تلك الأرواح الفلكية تعين أولادها على [ ص: 73 ] مصالحها وتهديها تارة في النوم على سبيل الرؤيا ، وأخرى في اليقظة على سبيل الإلهام ، ثم إذا اتفق لبعض هذه النفوس البشرية قوة قوية من جنس تلك الخاصية وقوي اتصاله بالروح الفلكي الذي هو أصله ومعدنه ظهرت عليه أفعال عجيبة وأعمال خارقة للعادات ، فهذا تفصيل مذاهب من يثبت الجن والشياطين ، ويزعم أنها موجودات ليست أجساما ولا جسمانية .
واعلم أن قوما من الفلاسفة طعنوا في هذا المذهب ، وزعموا أن المجرد يمتنع عليه إدراك الجزئيات والمجردات يمتنع كونها فاعلة للأفعال الجزئية .
واعلم أن هذا باطل لوجهين : الأول : أنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص المعين بأنه إنسان وليس بفرس ، والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما ، فههنا شيء واحد هو مدرك للكلي ، وهو النفس ، فيلزم أن يكون المدرك للجزئي هو النفس .
الثاني : هب أن النفس المجردة لا تقوى على إدراك الجزئيات ابتداء ، لكن لا نزاع أنه يمكنها أن تدرك الجزئيات بواسطة الآلات الجسمانية ، فلم لا يجوز أن يقال : إن تلك الجواهر المجردة المسماة بالجن والشياطين لها آلات جسمانية من كرة الأثير أو من كرة الزمهرير ثم إنها بواسطة تلك الآلات الجسمانية تقوى على إدراك الجزئيات وعلى التصرف في هذه الأبدان ، فهذا تمام الكلام في شرح هذا المذهب .
وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا : الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار ، وهذان المعنيان أعراض ، فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض ، والأشياء المختلفة بالماهية لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم ، فلم لا يجوز أن يقال : الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة ، وإن كانت مشتركة في قبول الحجمية والمقدار ؟ وإذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها ، قادرة على الأعمال الشاقة لذواتها وهي غير قابلة للتفرق والتمزق ؟ وإذا كان الأمر كذلك فتلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة ، ثم إن الرياح العاصفة لا تمزقها ، والأجسام الكثيفة لا تفرقها ، أليس أن الفلاسفة قالوا : إن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد ، وتخرج من الجانب الآخر ؟ فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة ، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها ، وإنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم ، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة ، والدليل لم يقم على إبطالها ، فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها .
وأما الجواب عن الشبهة الثانية : أنه لا يجب حصول تلك الصداقة والعداوة مع كل واحد وكل واحد لا يعرف إلا حال نفسه ، أما حال غيره فإنه لا يعلمها ، فبقي هذا الأمر في حيز الاحتمال .
وأما الجواب عن الشبهة الثالثة فهو أنا نقول : لا نسلم أن القول بوجود الجن والملائكة يوجب الطعن في نبوة الأنبياء عليهم السلام ، وسيظهر الجواب عن الأجوبة التي ذكرتموها فيما بعد ذلك ، فهذا آخر الكلام في الجواب عن الشبهات .