فصل
فأما الأغسال المستحبة فهي نوعان :
أحدهما : ما يقصد به النظافة لأجل اجتماع الناس في الصلاة المشروع لها الاجتماع العام في مجامع المناسك ، وهو غسل الجمعة ، والعيدين ، والكسوف ، والاستسقاء ، والاغتسال للإحرام ، ولدخول مكة والمدينة ، وللوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة ، ولرمي الجمار كل يوم ، وللطواف بالبيت ، وهذه تذكر إن شاء الله تعالى في موضعها .
النوع الثاني : ما يشرع لأسباب ماضية ، وهو غسل المستحاضة لكل صلاة ، والغسل من غسل الميت ، وغسل المجنون والمغمى عليه إذا أفاق من غير احتلام ، والغسل من الحجامة .
فأما المستحاضة فيذكر في موضعه ، وأما فهو مستحب في المشهور ، وقال القاضي في " الجامع الكبير " الاغتسال من غسل الميت وابن عقيل : " لا يجب [ ص: 362 ] ولا يستحب من غسل المسلم ؛ لأن الحديث لا يثبت فيه ، فظاهر كلام أحمد يقتضي ذلك ، وعنه أنه يجب من غسل الميت الكافر ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - " عليا أن يواري أبا طالب ، فواراه ، فلما رجع قال اغتسل " رواه أمر أحمد وغيره .
وقد ذكرنا في نواقض الوضوء قوله : " " وروي عن ليس عليكم في ميتكم غسل إذا غسلتموه ، فإنه ليس بنجس أنه سئل عن الذي يغسل الميت أيغتسل ؟ قال : " وإن كان صاحبكم نجسا فاغتسلوا منه " عن ابن مسعود - رضي الله عنهما - أنه سئل عن الذي يغسل الميت : أيغتسل ؟ فقال : " أنجس هو ؟ " . وعن ابن عباس قالت : " أأنجاس موتاكم ؟ " رواهن عائشة سعيد ، فموجب هذا التعليل وجوبه من الكافر ؛ لأنه نجس بالموت ولا يطهر بالغسل ، فعلى هذا ، قاله القاضي ، وقال يجب الغسل على الحي من غسل الكافر ابن عقيل : لا يجب . الأول اختيار أصحابنا ؛ لما روى ابن إسحاق قال : وقد كنت حفظت من كثير من علمائنا بالمدينة أن محمد بن عمرو بن حزم كان يروي عن أحاديث ، منها أنه حدثه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " المغيرة بن شعبة من غسل ميتا فليغتسل " رواه أحمد .
وعن - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي هريرة " رواه من غسل ميتا فليغتسل ، ومن حمله فليتوضأ أحمد ، وأبو داود ، ، وابن ماجه وقال : حديث حسن ، وإسناده شرط والترمذي مسلم .
[ ص: 363 ] وروي من وجوه أخرى ، قال أبو حفص : أي ما شرع لأسباب ماضية ، وهو من أراد حمله يتوضأ - يعني للصلاة عليه . وعن - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " عائشة " . رواه يغتسل من أربع ، من الجمعة ، والجنابة ، والحجامة ، وغسل الميت أحمد ، ولفظه " وأبو داود " وهو شرط أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل مسلم ، وتضعيف الإمام أحمد وغيره لبعض هذه الأحاديث إما لأنه لم يبلغهم حين التضعيف إلا من وجوه " ضعيفة " ، أو بناء على قاعدة الحديث دون ما يحتج به الفقهاء كما تقدم . وذهب أبو إسحاق الجوزجاني إلى وجوبه لما ذكرنا وهو معدود من أصحاب أحمد ، والمذهب أن الأمر فيه على الاستحباب ؛ لما تقدم عن [ ص: 364 ] الصحابة هنا ، وفي مسألة نقض الوضوء به ؛ ولأنه لو كان واجبا مع كثرة وقوعه لنقل نقلا عاما ولم يخف على أكابر الصحابة ، مع أن هي ممن يروي الاغتسال منه وتفتي بعدم وجوبه ، وكذلك الأمر في حديث علي المتقدم هو استحباب . لا سيما والروايات الصحيحة أنه أمره لمواراته دون تغسيله ، وتعليلهم بعدم النجاسة يفيد غسل ما يصيب الغاسل منه لو كان نجسا دون بقية البدن ، وأما عائشة فمستحب في إحدى الروايتين ؛ لما تقدم ، ولفعل الاغتسال من الحجامة علي . وفي الأخرى لا يستحب ، واختارها القاضي وغيره ؛ لأن القياس لا يقتضيه ، كالرعاف والفصاد ، وحديثه مضعف .
وأما اغتسال المجنون والمغمى عليه إذا فاقا ، فإن رأيا منيا وجب عليهما الاغتسال ، وإن لم يريا بللا أصلا ففي وجوب الاغتسال روايتان ، إحداهما : يجب ؛ لما روت قالت : عائشة أبي بكر " متفق عليه ، والأصل في أفعاله الوجوب في إحدى الروايتين ، يؤكد ذلك في الاغتسال أنه أفتى السائل عن الاغتسال من التقاء الختانين بأن يفعل ذلك ويغتسل منه ، وأفتى عامة الصحابة بقولها : " ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أصلى الناس ؟ قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله ، قال : ضعوا لي ماء في المخضب . قالت : ففعلنا ، فاغتسل ، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ، ثم أفاق فقال : أصلى الناس ؟ قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله ، قال : ضعوا لي ماء في المخضب ، قالت : ففعلنا ، فاغتسل ، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق ، فقال : أصلى الناس ؟ فقلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله . وذكرت إرساله إلى " لا سيما وقد تكرر ذلك منه مع مشقته عليه ، فلو لم يكن واجبا [ ص: 365 ] لتركه ؛ ولأنه مظنة للجنابة غالبا ، فأقيم مقام الحقيقة ، كالنوم مع الحدث ، والوطء مع الإنزال . قال فعلت ذلك أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا الإمام أحمد : " قل ما يكون الإغماء إلا أمنى " وقال : " قل أن يصرع إلا احتلم " بل هو أولى من ذلك ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز عليه الاحتلام ؛ لأنه معصوم من الشيطان ، ومع هذا كان يغتسل ، وهذا يدل على أن الإغماء سبب للغسل مع قطع النظر عن كونه مظنة الإنزال ، ألا ترى أنه إذا كان محفوظا في منامه من الحدث كان ينام ثم يصلي ولا يتوضأ ، فإذا وجب الوضوء على الأمة مع أنه لم يكن يفعله ، فوجوب الاغتسال الذي فعله أولى .
والرواية الثانية : لا يجب ، بل يستحب ؛ لأنه زوال عقل ، فلم يوجب الاغتسال كالنوم ، ولأن الحقيقة هنا أمكن اعتبارها ، فإن المني يبقى في ثوبه وبدنه ، بخلاف الحدث في النوم ، فإنه لا يعلم ، وعلى هذه الرواية لو وجد ولم يتيقنه منيا فقيل : لا يجب الغسل أيضا ، بخلاف النوم ؛ لأنه يمكن أن يكون من ، وقيل : يجب كالنوم ؛ لأن هذا يشرع له الاغتسال بكل حال بخلاف النائم ، فوجوب الاغتسال عليه يجب على النائم أولى ؛ ولهذا لو رأى المريض غير المبرود بللا حكمنا بأنه مني بخلاف صاحب الإبردة ، والله أعلم . المرض المزيل للعقل