الفصل الثاني : أنه إن تيمم بضربتين أو بأكثر جاز ؛ لأن وقد حصل ، كما قلنا في إيصال [ ص: 415 ] الطهور إلى أعضاء المتوضئ ، وكذلك إن مسح بيديه إلى المرفقين إلى ما فوقهما ، لكن يكره أن يمسح زيادة على المرفقين أو يمسح بثلاث ضربات مع الاكتفاء بما دونهما ، فأما المسح بضربتين فهذا أفضل عند القاضي وغيره من أصحابنا ؛ لوجهين : المفروض في القرآن أن يمسح وجهه ويديه من الصعيد
أحدهما : أن ذلك متفق على جوازه ، وما دونه مختلف فيه خلافا ظاهرا ، والأخذ بالمتفق عليه أولى من المختلف فيه .
الثاني : أن ذلك قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي الجهيم ، ، وعبد الله بن عمر وجابر ، والأسلع ، قولا وفعلا ، أن ، رواهن التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين وغيره ، وروي عن [ ص: 416 ] الدارقطني أبي أمامة أيضا ، وهي وإن ضعفت فقد تعددت طرقها ، ، مع أن والعمل بالضعاف في الفضائل جائز " كان يتيمم بضربتين " والمنصوص عن ابن عمر أحمد أن السنة ضربة واحدة للوجه والكفين ، قال : ومن قال : " ضربتين " فإنما هو شيء زاد من فعله ، ولا حرج عليه .
وقال أيضا : " إن فعل لا يضره " .
وهكذا اختيار كثير من أصحابنا كما ذكره الشيخ رحمه الله ؛ لأن هو الذي صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو المفسر لكتاب الله والمعبر عنه ، وسائر الأحاديث الضعيفة لا يجوز إثبات الأحكام والعدول عن السنة الثابتة بمثلها .
قال الخلال : " الأحاديث في ذلك ضعيفة جدا " ثم هو قول عليه الصحابة مثل : علي ، وعمار ، ، ثم هو أشبه بمعنى الكتاب والسنة كما [ ص: 417 ] ذكرنا ، فإن التمسح بالتراب لا يستحب الزيادة فيه على قدر الكفاية ، بدليل أنه لا يسن إطالة الغرة فيه ولا تخليل اللحية ولا الزيادة على المرة منه ، وأيضا فإن ما أمكن جمعهما بماء واحد في الوضوء فهو أفضل من مائين كالفم والأنف والرأس والأذن ؛ لأنه أقرب إلى القصد وأبعد عن السرف ، فما أمكن جمعهما بتراب واحد أولى . وإذا كان من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء ، فقلة ولوعه بالتراب أولى ، وأيضا فإن التمسح بالتراب في الأصل مكروه لأنه ملوث مغبر بخلاف الماء ، وإنما استثني منه مورد العبادة ، فالزيادة على الكفاية لا مقتضى له . نعم أجزنا الضربتين في الجملة كما أجزنا الغرفتين والمائين في الوضوء ؛ لأن الضربتين مظنة الاحتياج إليهما ؛ إذ قد لا يكفي التراب الواحد ولا يمكن به ، وأجزنا المسح إلى المرفق لأنه في الجملة محل الطهارة مع ما جاء فيه عن وابن عباس وغيره ، وهذا القدر يفيد الجواز لا الفضيلة ، وأما الخروج من اختلاف العلماء فإنما يفعل احتياطا إذا لم تعرف السنة ولم يتبين الحق ؛ لأن من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه ، فإذا زالت الشبهة وتبينت السنة ، فلا معنى لمطلب الخروج من الخلاف ، ولهذا كان الإيتار بثلاث مفصولة أولى من الموصولة ، مع الخلاف في جوازهما من غير عكس ، والعقيقة مستحبة أو واجبة مع الخلاف في كراهتها ، وإشعار الهدي سنة مع الخلاف في كراهته والإجماع على جواز تركه ، وفسخ الحج إلى العمرة لمن يريد التمتع أولى من البقاء عليه اتباعا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الخلاف الشائع في جواز ذلك ، وإعطاء صدقة الفطر لمسكين واحد أفضل مع الخلاف في جوازه ، وترك القراءة للمأموم في صلاة [ ص: 418 ] " الجهر " أفضل بل قراءتها له مكروهة على المشهور مع الخلاف في الإجزاء ، ( وتفريق ) قيمة صدقته بنفسه أفضل مع الخلاف في جوازه في الأحوال الظاهرة ، وأمثال ذلك كثيرة . ابن عمر
وأما الأحاديث المأثورة فهي ضعيفة على ما هو مبين في موضعه ، والعمل بالضعاف إنما يشرع في عمل قد علم أنه ( مشروع ) في الجملة ، فإذا رغب فيه في بعض أنواعه لحديث ضعيف ، عمل به ، أما إثبات سنة فلا ، ثم إن صحت هذه الأحاديث فإنما تفيد الجواز فقط ، إذ أقصى ما في الباب أن كلا الصورتين قد صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وما كان أقرب إلى القصد فهو أفضل في هذا الباب كما تقدم ، ولعله صلى الله عليه وسلم إنما قصد بذلك نفي شرع الزيادة على المرفق ، فإن اليد لما كانت مطلقة وقد توهم أن مسحها إلى الإبط مشروع ، بين أن أقصى ما يمسح منها إلى المرفق وأن محل التيمم لا يزيد على الوضوء ، ولعل ذلك كان في أول ما شرع التيمم ، ففي حديث " عمار بن ياسر زوجه فانقطع عقد لها من جزع ظفار ، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء ، فأنزل الله تعالى على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم الأرض ، ثم رفعوا أيديهم ولم ينفضوا من التراب شيئا فمسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب ، ومن بطون أيديهم إلى الآباط عائشة " . رواه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بأولات الجيش ومعه أحمد وأبو داود . والنسائي
[ ص: 419 ] " فأما لا ينهى عنه أو يكونوا فعلوه بأمره ثم نسخ إلى الكوع إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بغير أمره فنهاهم عما يقبل النهي وهو الزيادة على الوضوء الجائز " .
يؤيد ذلك ما روي عن عن ابن ماجه عبيد الله بن عتبة عن حين تيمموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " عمار بن ياسر " . فأمر المسلمين فضربوا بأكفهم التراب ولم يقبضوا من التراب شيئا فمسحوا بوجوههم مسحة واحدة ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فضربوا بأيديهم
ثم بعد ذلك جاء حديث عمار الذي ذكرناه لأنه اعتقد أن التراب يوصل إلى محل الماء وأن الذي عملوه أولا هو تيمم المحدث ، وأن تيمم الجنب يعم البدن كما يعمه الماء ، فتمعك بالتراب ، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم . صفة التيمم
[ ص: 420 ] وكان ذلك آخر الأمرين ، وبه كان يقول عمار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا تيمم بالضربتين فالأفضل أن يمسح بالضربة الأولى جميع وجهه به الذي يجب غسله في الوضوء ، ومما لا يشق ، وبالثانية يديه إلى المرفقين فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهر أصابع يده اليمنى ويمرها إلى ظهر الكف ، فإذا بلغ إلى الكوع قبض بأطراف أصابعه على حرف الذراع ويمرها إلى مرفقه ثم يدير بطن ذراعه ويمره عليه ويرفع الإبهام ، فإذ بلغ الكوع أمر الإبهام على ظهر إبهام يده اليمنى ثم يمسح اليسرى باليمنى كذلك ، ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى ويخلل الأصابع ، في المنصوص من الوجهين كالوضوء ، وإن كانت مقطوعة من الذراع مسح موضع القطع أيضا ، نص عليه . والأقطع من الكوع يمسح بالتراب موضع القطع
قال القاضي : " يستحب ذلك لأنه موضع الإسباغ في الوضوء " .