( 3035 ) فصل : يصح سواء كانت الجناية ، عمدا أو خطأ ، على النفس وما دونها ، موجبة للقصاص أو غير موجبة له . وبهذا قال بيع العبد الجاني ، ، أبو حنيفة في أحد قوليه ، وقال في الآخر : لا يصح بيعه ; لأنه تعلق برقبته حق آدمي ، فمنع صحة بيعه ، كالرهن ، بل حق الجناية آكد ; لأنها تقدم على حق المرتهن . ولنا ، أنه حق غير مستقر في الجاني ، يملك أداءه من غيره ، فلم يمنع البيع ، كالزكاة ، أو حق يثبت بغير رضا سيده ، فلم يمنع بيعه ، كالدين في ذمته ، أو تصرف في الجاني ، فجاز ، كالعتق . وإن كان الحق قصاصا ، فهو ترجى سلامته [ ص: 124 ] ويخشى تلفه ، فأشبه المريض . والشافعي
أما الرهن ، فإن الحق متعين فيه ، لا يملك سيده إبداله ، ثبت الحق فيه برضاه ، وثيقة للدين ، فلو أبطله بالبيع ، سقط حق الوثيقة الذي التزمه برضاه واختياره . إذا ثبت هذا فمتى باعه ، وكانت الجناية موجبة للمال ، أو القود ، فعفي عنه إلى مال ، فعلى السيد فداؤه بأقل الأمرين من قيمته ، أو أرش جنايته ، ويزول الحق عن رقبة العبد ببيعه ; لأن للسيد الخيرة ، بين تسليمه وفدائه . فإن باعه تعين عليه فداؤه ; لإخراج العبد من ملكه . ولا خيار للمشتري ; لعدم الضرر عليه ، إذ الرجوع على غيره ، هذا إذا كان السيد موسرا .
وقال بعض أصحاب : لا يلزم السيد فداؤه ; لأن أكثر ما فيه أنه التزم فداءه ، فلا يلزمه ذلك ، كما لو قال الراهن : أنا أقضي الدين من الرهن . ولنا ، أنه زال ملكه عن الجاني ، فلزمه فداؤه ، كما لو قتله ، بخلاف الرهن ، وبهذا قال الشافعي . وإن كان البائع معسرا ، لم يسقط حق المجني عليه من رقبة الجاني ; لأن البائع إنما يملك نقل حقه عن رقبته بفدائه أو ما يقوم مقامه ، ولا يحصل ذلك في ذمة المعسر ، فيبقى الحق في رقبته بحاله مقدما على حق المشتري . وللمشتري خيار الفسخ ، إن كان غير عالم ببقاء الحق في رقبته ، فإن فسخ رجع بالثمن ، وإن لم يفسخ ، وكانت الجناية مستوعبة لرقبة العبد ، فأخذ بها ، رجع المشتري بالثمن أيضا ، لأن أرش مثل هذا جميع ثمنه ، وإن كانت غير مستوعبة لرقبته ، رجع بقدر أرشه . أبو حنيفة
وإن كان عالما بعيبه ، راضيا بتعلق الحق به ، لم يرجع بشيء ; لأنه اشترى معيبا عالما بعيبه . فإن اختار المشتري فداءه ، فله ذلك ، والبيع بحاله ; لأنه يقوم مقام البائع في الخيرة بين تسليمه وفدائه ، وحكمه في الرجوع بما فداه به على البائع حكم قضاء الدين عنه . فإن كانت الجناية موجبة للقصاص ، فللمشتري الخيار ، بين الرد وأخذ الأرش ، فإن اقتص منه تعين الأرش ، وهو قسط قيمته ما بينه جانيا وغير جان ، ولا يبطل البيع من أصله . وبهذا قال أصحاب . الشافعي
وقال ، أبو حنيفة : يرجع بجميع الثمن ; لأن تلفه كان بمعنى استحق عند البائع ، فجرى مجرى إتلافه إياه . ولنا ، أنه تلف عند المشتري بالعيب الذي كان فيه ، فلم يوجب الرجوع بجميع الثمن ، كما لو كان مريضا ، فمات بدائه ، أو مرتدا ، فقتل بردته ، وما ذكروه منتقض بما ذكرناه ، ولا يصح قياسهم على إتلافه ; لأنه لم يتلفه ، فما اشتركا في المقتضي . والشافعي
ولو كانت الجناية موجبة لقطع يده ، فقطعت عند المشتري ، فقد تعيب في يده ; لأن استحقاق القطع دون حقيقته ، فهل يمنع ذلك رده بعيبه ؟ على روايتين . ومتى اشتراه عالما بعيبه ، لم يكن له رده ; ولا أرش ، كسائر المعيبات ، وهذا قول . ( 3036 ) فصل : الشافعي ، وسائر أحكامه المذكورة فيه ، فإن قتله غير متحتم ; لاحتمال رجوعه إلى الإسلام . وكذلك القاتل في المحاربة إذا تاب قبل القدرة عليه ، فإن لم يتب حتى قدر عليه ، فقال وحكم المرتد حكم القاتل ، في صحة بيعه : هو كالقاتل في غير محاربة ; لأنه عبد قن ، يصح إعتاقه ، ويملك استخدامه ، فصح بيعه ، كغير القاتل ، ولأنه يمكنه الانتفاع به إلى حال قتله ، ويعتقه فينجر به ولاء أولاده ، فجاز بيعه ، كالمريض المأيوس من برئه . أبو الخطاب
وقال : لا يصح بيعه ; لأنه تحتم قتله وإتلافه وإذهاب ماليته ، وحرم إبقاؤه ، فصار بمنزلة ما لا نفع فيه من الحشرات والميتات ، وهذه المنفعة اليسيرة مفضية به إلى قتله لا يتمهد بها محلا للبيع ، كالمنفعة [ ص: 125 ] الحاصلة من الميتة ; لسد بثق ، أو إطعام كلب ، والأول أصح ، فإنه كان محلا للبيع ، والأصل بقاء ذلك فيه ، وانحتام إتلافه لا يجعله تالفا ; بدليل أن أحكام الحياة ، من التكليف وغيره ، لا تسقط عنه ، ولا تثبت أحكام الموتى له ، من إرث ماله ، ونفوذ وصيته وغيرها ، ولأن خروجه عن حكم الأصل ، لا يثبت إلا بدليل ، ولا نص في هذا ولا إجماع ، ولا يصح قياسه على الحشرات والميتات ; لأن تلك لم تكن فيها منفعة ، فيما مضى ، ولا في الحال ، وعلى أن هذا التحتم يمكن زواله ; لزوال ما ثبت به من الرجوع عن الإقرار ، وإن كان ثبت به ، أو رجوع البينة ، ولو لم يمكن زواله ، فأكثر ما فيه تحقق تلفه ، وذلك يجعله كالمريض المأيوس من برئه ، وبيعه جائز . القاضي