شيء من الجاهليـة...
ولكي ندرك البعد الشاسع لهذه النقلة التصورية في مجال العقيدة، [ ص: 36 ] فإن لنا أن نستحضر في أذهاننا شيئا من ممارسات العقل العربي في الجاهلية، وطرائق إدراكه للعالم، وصيغ تعامله مع ما " تصوره " القوى التي تهيمن عليه، وتسيره.. ونقارن هـذا بالمصاف الذي احتله العقل المسلم بعد إعادة تشكيله بالاعتقاد الجديد.
يقول ابن الكلبي في كتابه المعروف " الأصنام " :
(... كان الذي سلخ بالمكيين إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم، تعظيما للحرم وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة.. ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم ) [1]
وحدث وأن أصيب عمرو بن لحي -الذي يلي أمر الكعبة- بمرض شديد فقيل له: (... إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برأت، فأتها فاستحم بها فبرأ ؛ ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هـذه ؟ فقالوا نستسقي بها المطر !! ونستنصر بها على العدو، فسأله أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة ) [2]
ومن يومها والأصنام تزداد في أروقة مكة وأطرافها بمرور الوقت، [ ص: 37 ] والإوثان تتكاثر.. والخرافات التي جعلت من الحجارة آلهة تعبد ويتقرب بها إلى الله.. تنتشر وتمتد وتتشابك لكي ما تلبث أن تغطي حياة العربي كلها في عبادته وعمله.. في ليله ونهاره.. في صحوته ومنامه..
ويروح ابن الكلبي يحكي لنا عن الأصنام التي اتخذها العرب آلهة: سواع.. يغوث.. يعوق.. نسر.. مناة.. اللات.. العزى.. هـبل.. أساف ونائلة.. ذو الخصلة.. ذو الكفين.. ذو الشرى.. الأقيصر.. نهم.. رائم.. سعيد.. الفلس.. سعد.. اليعبوب.. باجر.. عميانس.. وعشرات.. بل مئات أخرى من الأصنام والأوثان لم تكن منتشرة في الصحراء وحدها، بل على العكس، كانت المدن الأكثر تقدما هـي الساحات التي تعج بها وتزدحم.. وحول كل صنم أو وثن حشد من الخرافات والأوهام والأضاليل، تراكمت وتشابكت كما تتشابك خيوط العنكبوت في الأماكن المهجورة.. ولا يبخل علينا ابن الكلبي بهذه الترهات.. كان إساف يتعشق نائلة في أرض اليمن ، فأقبلوا حجاجا، فدخلوا الكعبة فوجدوا غفلة من الناس وخلوة في البيت، ففجر بها هـناك، فمسخا، فأصبحوا، فوجدوهما مسخين، فأخرجوهما فوضعوهما في موضعهما، فعبدتها خزاعة وقريش ومن حج البيت بعد من العرب [3]
وكانت الأوس والخزرج ومن يأخذ مأخذهم من عرب أهل يثرب [ ص: 38 ] وغيرها، يحجون فيقفون مع الناس المواقف كلها ولا يحلقون رؤوسهم ؛ فإذا نفروا أتوا مناة ( على ساحل البحر الأحمر) فحلقوا رؤوسهم وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تماما إلا بذلك [4] ... والأوس والخزرج قبيلتان ممن هـداهما الله إلى الإسلام -فيما بعد- وإعز بهما دينه ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم فليس ما يقول بعضهم من أن الدين القويم لا ينبت في النفوس الملتوية والعقول الضالة، فإنه ما دام الإسلام قد قام بين العرب فهم بالضرورة - ليسوا جاهليين !!..
وكان هـبل في جوف الكعبة، قدامه سبعة أقداح، مكتوب في أولها " صريح " والآخر " ملصق " فإذا شكوا في مولود أهدوا له هـدية، ثم ضربوا بالقدح فإن خرج " صريح " ألحقوه، وإن خرج " ملصق " دفعوه. وقدح على الميت، وقدح على النكاح، وثلاث لم تفسر على أي شيء كانت، فإذا اختصموا في أمر وأرادوا سفرا أو عملا، أتوه فاستقسموا بالقداح عنده، فما خرج عملوا به وانتهوا إليه. [5] كأن ليس لهم عقول تهديهم إلى ما يفعلون، ولا إرادة حرة تمكنهم من فعل ما يختارون.. وكأن الشك في صحة أنساب أبنائهم كان هـو القاعدة، واليقين هـو الشذوذ، ولذا كانوا يلجأون للأقداح علها تقطع شكهم باليقين.
وكان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به، وإذا قدم من سفر كان [ ص: 39 ] أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضا!! [6] ، وكان لقضاعة ولخم وجذام وأهل الشام صنم يقال له " الأقيصر " فكانوا يحجونه ويحلقون رؤوسهم عنده ؛ فكانوا كلما حلق رجل منهم رأسه ألقى مع كل شعرة قبضة من دقيق [7]
وكان مالك بن حارثة يبعث به أبوه باللبن إلى ود، ويقول: اسقه إلهك !! يقول مالك: فأشربه ثم رأيت خالد بن الوليد -بعد- كسره فجعله جذاذا [8]
وهو يذكرنا بتلك القبيلة من بني حنيفة التي كانت إذا جاعت أكلت إلهها المصنوع من التمر..
" واستمرت العرب في عبادة الأصنام - يقول ابن الكلبي- فمنهم من اتخذ بيعا ومنهم من اتخذ صنما. ومن لم يقدر ولا على بناء بيت نصب حجرا أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت وسموها " الأنصاب " .. فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا، وجعل ثلاثة أسافي لقدره، وإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلا آخر فعل ذلك، فكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون إليها، وكان الذين يفعلون من ذلك في أسفارهم إنما هـو للاقتداء منهم بما يفعلون عندها ولصبابة بها " [9]
من هـذا المستنقع الآسن.. من هـذه النقرة الضيقة التي يختنق فيها العقل والروح والوجدان.. من هـذه الخرائب المهجورة التي يعشش [ ص: 40 ] فيها التخلف، والسخف، والسذاجة، جاء الإسلام لكي يخرج بالإنسان إلى آفاق التوحيد، ونضج التصور، ونقاء الاعتقاد.. فيحرر عقله وروحه ووجدانه، ويعيد تشكيلها من جديد.
لقد طرحت هـذه العقيدة، أو بنيت بعبارة أدق، على حشد من القيم التصورية، كالربانية والشمولية والتوازن والثبات والتوحيد والحركية والإيجابية والواقعية.. تلتئم وتتداخل وتتكامل لكي تشكل نسقا عقيديا، ما بلغت عشر معشاره أية عقيدة أخرى في العالم، وضعية كانت أم دينية.. ولن تبلغه أبدا.. وكما أن هـذا " النسق " المحكم يمثل تطابقا باهرا مع معطيات الفطرة البشرية في أصولها النقية الحرة.. فإنه يمثل في الوقت نفسه تطابقا مذهلا مع معطيات العقل المحضة، وتطلعاته وآفاقه.
إن التصور الإسلامي نسيج وحده.. وإن المغزل الإلهي الذي حاكه بإعجاز يصعب تنفيذه على الإنسان.. هـو الذي عرف كيف يعيد تشكيل العقل الجديد، ويدفعه في الوقت نفسه إلى الحركة التي لا سكون بعدها.
لقد منحه الأرضية.. وأعطاه الإشارة.. وسنجده ينطلق بعدها، لكي يصنع المعجزات..