الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [3] النقـلة المعرفيـة...

          النقلة الإسلامية الأخرى، أو التحول الآخر، تحول معرفي.. [ ص: 41 ] عمل في صميم العقل من أجل تشكيله بالصيغة التي تمكنه من التعامل مع الكون والعالم والوجود، بالحجم نفسه، لطموح نفسه،

          الذي جاء الإسلام لكي يمنحها للإنسان.

          منذ الضربة الأولى في كتاب الله.. الكلمة الأولى.. نلتقي بحركة التحول المعرفي هـذه: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم ) ( العلق: 1- 5 ) .

          وعبر المسيرة الطويلة مسيرة الاثنتين والعشرين سنة، حيث كانت آيات القرآن تتنزل بين الحين والحين، استمر " التأكيد " نفسه لتعميق الاتجاه، وتعزيزه والتمكين للنقلة، وتحويلها إلى واقع يومي معاش. إن نداءات القرآن المنبثقة من فعل القراءة والتفكير، والتعقل والتفكر والتدبر.. إلى آخره منبثة في نسيج كتاب الله.. لم تخفت نبرتها أبدا هـناك في العصر المكي أو هـنا في العصر المدني.. لكأنها معجونة بالخيط الإلهي الذي نسج آياته البينات..

          ليس عبثا أن تكون كلمة ( اقرأ ) هـي الكلمة الأولى في كتاب الله.. وليس عبثا أن تتكرر مرتين في آيات ثلاث.. وليس عبثا -كذلك- أن تتكرر كلمة ( علم ) ثلاث مرات وأن يشار بالحرف إلى القلم: الأداة التي يتعلم بها الإنسان..

          وبعدها، وعبر المدى الزمني لتنزل القرآن، ينهمر السيل ويتعالى [ ص: 42 ] النداء المرة تلو المرة: اقرأ، تفكر، اعقل، تدبر، تفقه، انظر، تبصر.. إلى آخره.. ويجد العقل المسلم نفسه ملزما، بمنطق الإيمان نفسه، بأن يتحول، أن يتشكل من جديد لكي يتلاءم مع التوجه (المعرفي) الذي أراده الدين الجديد: ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) ( القيامة: 18 ) .

          ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) ( الإسراء: 106 ) .

          ( فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ( يونس: 94) .

          ( علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) ( المزمل: 20 ) .

          ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) ( الأعراف: 204 ) .

          ( سنقرئك فلا تنسى ) ( الأعلى: 6) .

          ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) ( محمد: 24 ) .

          ( أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ) ؟ ( المؤمنون: 68 ) .

          ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) ( ص: 29 ) . [ ص: 43 ]

          ( كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره ) ( المدثر: 55- 56 ) .

          ( لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ) ( الزخرف: 13 ) .

          ( أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ) ؟ ( مريم: 67 ) . ( وإذا ذكروا لا يذكرون ) ( الصافات: 13 ) .

          ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ) ( الأحزاب: 34 ) . ( خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) ( البقرة: 63 ) . ( واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة ) ( البقرة 231 ) .

          ( وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ) (الأعراف: 69 ) .

          ( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) ( ق: 45 ) .

          ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) ( الذاريات: 55 ) .

          ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ) ( الكهف: 57 ) . [ ص: 44 ]

          ( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ) ( الفرقان: 73 ) .

          ( وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون ) ( الأنعام: 80 ) .

          ( وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون ) ( غافر: 58 ) .

          ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هـو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب ) ( الرعد:19 ) .

          ( قل هـل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ) ( الزمر: 9) .

          ( ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) ( البقرة: 221 ) .

          ( ولقد ضربنا للناس في هـذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ) ( الزمر: 27 ) .

          ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ) ( البقرة 269 ) .

          ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ) ( آل عمران: 7 ) .

          ( قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون ) ( الأنعام: 126 ) . [ ص: 45 ]

          ( وأورثنا بني إسرائيل الكتاب * هـدى وذكرى لأولي الألباب ) ( غافر:53-54 ) .

          ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) ( ق: 37 ) .

          ( لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية ) ( الحاقة: 12 ) .

          ( إن هـذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) ( المزمل: 19 ) .

          وسوف نلتقي في الحديث عن ( النقلة المنهجية ) بحشود أخرى من الآيات القرآنية عن الأفعال المعرفية الأخرى: النظر، السمع، البصر، التعقل، التفقه،.. العلم.. إلخ..

          بل إن نسيج القرآن الكريم نفسه، ومعطياته المعجزة، من بدئها حتى منتهاها، في مجال العقيدة، والتشريع، والسلوك، والحقائق العلمية تمثل نسقا من المعطيات المعرفية كانت كفيلة بمجرد التعامل المخلص الذكي المتبصر معها أن تهز عقل الإنسان وأن تفجر ينابيعه وطاقاته وأن تخلق في تركيبه خاصية التشوق المعرفي لكل ما يحيط به من مظاهر ووقائع وأشياء..

          لقد كان القرآن الكريم يتعامل مع خامة لم تكن قد حظيت من " المعرفة " إلا بالقسط اليسير.. مع جيل من الناس لم يبعد -بعد- عن تقاليد الجاهلية وقيمها وطفولتها الفكرية.. لكنه قدر بقوة الإيمان المعجون بالدعوة الجديدة على أن يعلمهم فعلا.. وذلك بأن [ ص: 46 ] يعيد تشكيل عقولهم لكي تكون قديرة على استيعاب المضامين الجديدة مدركة للأبعاد الشاسعة التي جاء هـذا الدين لكي يتحرك الإنسان صوب آفاقها الرحبة.. وما كان ذلك ليتحقق لولا إشعال فتيلة التشوق المعرفي المسلم ودفعه إلى البحث والتساؤل والجدل..

          لقد انتهى عصر الاستسلام والسكون والرضى بأوساط الأشياء.. وجاء عهد القلق والحركة.. بحثا عن الكمال الذي يليق بمعطيات الدين الجديد..

          لقد حرث الإسلام في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الأرض البكر بعد أن انتزع حشائشها الضارة ودغلها ومنحها الماء وبذر فيها البذور الصالحة للإنبات.. ولن تكون النتيجة بعدها إلا حدائق ذات بهجة وفاكهة وأبا.. ولن يكون الحصاد إلا جنى حلوا وشهدا..

          إن الإسلام لا يهتم بالتفاصيل.. ولكنه يسعى إلى تكوين " بيئة " عمل وإنجاز تتضمن الشروط والمواصفات كافة التي تمكنها من العطاء.. وها هـنا في حقل التوجه المعرفي تمكن الإسلام من خلق هـذه البيئة فبعث أمة من الناس لا يزال عقلها يعمل ويكد ويتوهج.. حتى أنار الطريق للبشرية يوم كانت تدلج في ليل بهيم..

          إن النهار الذي أطلعته حضارة الإسلام الآتية.. ما كان له أن يطلع لولا الشعلة التي مست عقل كل مسلم ودفعته إلى التألق وهو ينطلق لتعزيز يقينه الجديد.. [ ص: 47 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية