الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          حـدود الجـبر والاختيار...

          ولو تمعنا قليلا في موقفنا عبر الكون لرأينا أننا مجبرون -بالحق والعدل والنواميس وباعتبارنا جزءا من خليقة الله شئنا أم أبينا- في مساحات واسعة حاسمة من وجودنا: أننا مجبرون على أن نولد ومجبرون على أن نموت.. أننا مجبرون على أن نبعث وأن نحاسب على أعمالنا وأن نساق إلى جنة أو إلى نار، وفق هـذا الإقليم أو ذاك، إلى هـذه القبيلة أو تلك الأمة، وإلى هـذا الجنس أو ذاك، وإلى هـذا اللون أو ذاك.. مجبرون كذلك على أن نخضع لمتطلبات حياتنا البيولوجية والحسية، وعلى أن نتقلب في تجاربنا النفسية بين الحزن والفرح والغم والانشراح والخوف والطمأنينة والتمزق والتوحد.. وفوق هـذا وذاك [ ص: 109 ] فإننا مجبرون على حمل ملامحنا الشخصية المتفردة، وسماتنا الخاصة، وبصمات أصابعنا.. ودون هـذه الالتزامات الحتمية تتبدد الحياة وتفقد وحدتها وتماسكها ومعناها.. دون هـذا " الجبر " تضيع البشرية، ويحدث التناقض في النواميس، وتختفي قيم الحق والعدل الأزلية.. والمساحة المتبقية لممارسة حريتنا إنما منحت لنا لتمييزنا عن سائر خلق الله وتفضيلنا على العالمين.. إن هـذه المساحة تمتد هـي الأخرى إلى أمداء واسعة: الموقف الذي نتخذه من العالم.. الأعمال والأهداف والمعطيات التي نقدمها في الحياة.. هـذه الحرية التي تقف بالإنسان والأمم والشعوب والحضارات على مفترق طريقين: فإما أن تكون مواقفنا وأعمالنا وأهدافنا منسجمة مع نواميس الكون، وسنن الحياة متوافقة معها، مما يترتب عليها إنجاز حضاري أغنى، وتوحد بشري أشمل، وسعادة أكثر عمقا، ومصير في الأرض والسماء أشد توافقا مع مهمة الوجود البشري في الأرض.. وهذا ما سعت الأديان لتحقيقه في العالم، وما يسعى الإسلام وسيظل من أجل تحويل البشرية كلها إليه: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . ... ) ( الأنفال: 39 )

          وإما أن تجيء هـذه المواقف والأعمال والأهداف منشقة بالقدر الذي منحت فيه اختيارها بطبيعة الحال عن نواميس الكون وسنن الحياة، مرتطمة بها، الأمر الذي يترتب عليه إنجاز حضاري متفكك، وتمزق بشري شامل، وشقاء عميق، ومصير سيء في الدنيا والآخرة، يند عن طبيعة الدور الذي بعث الإنسان في العالم لأدائه، ويجيء مكافئا لعصيانه ورفضه أداء المهمة.. وهذا ما سعت المذاهب [ ص: 110 ] الوضعية وتسعى لتحقيقه في العالم وتحويل البشرية كلها إليه.. ومن ثم فإن الإسلام في تحليله لأدوار الأمم والشعوب والحضارات إنما يتخذ هـذا المقياس الكوني المصيري الحاسم في تحديد مدى توافق التجربة البشرية مع النواميس أو ارتطامها بها، ويدعونا إلى مواقع الانسجام والتوافق نافخا فينا روح العمل والإبداع مستقطبا ممارساتنا ومعطياتنا في الهدف الواحد الشامل الذي أعلنه الله سبحانه: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ( الذاريات: 56 ) .

          وليس مفهوم العبادة هـنا مساحة ضيقة لا تتجاوز دائرة " الشعائرية " و " الاتصال الروحي " بالله.. إنه تجربة حياة كاملة يتوازن فيها الأخذ والعطاء، وتغدو أشبه بالبرنامج الشامل الذي ينظم فاعليات الجماعة البشرية في الأرض، ويمنحها معنى، ويسير بها إلى هـدف واحد مرسوم.. إنه يمنح التجربة الحضارية وطابعها الخاص، ويعطيها الدافع، كما أنه يتجاوز بها السفوح الدنيا للنشاط البشري إلى القمم التي تليق بمكانة الإنسان في العالم.. وبذا تسقط -ابتداء- كل السلبيات التي يمكن أن تعلق بأي نشاط حضاري لا يعتمد برنامجا شاملا، أو لا يسعى إلى هـدف واضح ولا يلتزم أخلاقية الإنسان في مناجاته مع خالقه... [ للاطلاع على مزيد من التفاصيل حول الموقف الإسلامي من " الحضارة " انظر الفصلين الثالث والرابع من كتاب " التفسير الإسلامي للتاريخ " (للمؤلف) واللذين اعتمدت بعض معطياتهما في هـذا الفصل والذي يليه مع الإضافة وإعادة الصياغة التي تقتضيها طبيعة السياق ]. [ ص: 111 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية