إنها الأمانـة...
ولكن.. وقبل أن ندخل في تفاصيل هـذه التحولات الخطيرة في مستوياتها الأربعة، نجد أنفسنا إزاء هـذا السؤال الملح:
إن " القضية " أو " الدين الجديد " في التحليل النهائي، تمثل تعبيرا عن التقابل الشامل بين علم الله الذي لا تحده حدود وبين قدرة الدماغ البشري، والكينونة الآدمية عموما، على إدراك هـذا العلم وهضمه وتمثله وتحويله إلى فعل متحقق، وسلوك منظور، وصيرورة تاريخية مبدعة... وإذا استخدمنا التعبير القرآني نفسه قلنا: إنه عرض (للأمانة) الكبرى التي لم تطق حملها السماوات والأرض، وها هـي الآن تعرض على الإنسان..
فهل هـو قدير حقا على الالتزام بالمهمة الصعبة ؟.
وهل ثمة ما يمكن أن يخشى من حدوث نوع من الانفصال، من التباعد أو الثنائية بين معطيات الدين المتقدمة هـذه، وبين القدرة [ ص: 28 ] البشرية، العقلية والروحية، على التحمل والتمثل والالتحام ؟
لن نستعير مصطلحا أجنبيا إن قلنا: إن الدعوة الجديدة كانت (تقدمية) جدا بالنسبة للعقل البشري... وإنها طرحت من المعطيات ما لم يكن بمقدور هـذا العقل، حتى وهو يدعي صعوده الذروة في القرن العشرين هـذا، على إدراك بعض جوانبها، فضلا عن هـضمها وتمثلها وتحويلها إلى فعل وتحقق صيرورة وسلوك وإبداع..
إننا هـنا إزاء معادلة صعبة من الدرجة الرابعة -إذا صحت التعابير- علم غير محدود إزاء قدرات عقلية محدودة لم تكن تملك الدربة الكافية والمران المطلوب لتقبل نفحات هـذا العلم الممدود..
فكيف تمت الاستجابة ؟
كيف قدر العقل المسلم على تحمل الأمانة وتنفيذ المهمة وأداء الدور ؟
كيف لم يحدث، في الأعم الأغلب، ما كان يمكن أن يحدث من انفصال وتباعد وسوء تفاهم بين المطالب الجديدة (المتقدمة) وبين الشد التاريخي، والتقاليد السائدة، والقدرات المحدودة؟
لقد حدث شيء من " سوء الفهم " هـذا.. من عدم التقبل، والتفاعل، والالتحام.. ما في هـذا شك.. وعلى الطرف الآخر.. كان أحد أسباب تشبث الكفار بمواقعهم يكمن هـا هـنا: عدم قدرة عقولهم على استيعاب المضامين والمعطيات والآفاق التي جاء بها وطرحها وعرضها عليهم الدين الجديد..
إلا أن الخط الأكثر عمقا وامتدادا، أن المنتمين إلى الدين الجديد، [ ص: 29 ] عبر سلسلة طويلة من الأجيال، كانت عند حسن الظن.. وحققت القفزة المرجوة في اتجاهها جميعا..