النقل الجغـرافي والانتشـار...
وثمة الاتجاه الثالث الذي مارسه العقل المسلم حضاريا: النقل الجغرافي والانتشار..
إذا كانت الحضارة الإسلامية في الأولى قد مارست انفتاحا عقلانيا على تراث الحضارات السابقة، وإذا كانت في الثانية قد حورت فيها وفسرت وشرحت وأضافت وابتكرت وأغنت.. فإنها هـا هـنا تمارس انفتاحا إنسانيا يتجاوز تقاليد الانغلاق على الذات ويرفض الأنانية والاستعلاء..
لقد فتح المسلمون صدروهم لكل طالب علم أيا كانت الجهة لتي قدم منها، وفتحوا أبوابهم ونوافذهم على مصراعيها لكي يخرج منها الضوء الجديد، فيغطي قارات العالم، ويلفها بالنور.. لقد وضعوا كشوفهم ومعطياتهم أمام الجميع ونادوا بأعلى صوت: إن من يرد أن يأخذ فإن الطريق مفتوح.. لقد كان عطاؤهم -بحق- غير مجذوذ..
إن غوستاف لوبون يقول بصراحة :
(... لقد كان تأثير العرب في الغرب عظيما للغاية فأوروبة مدينة [ ص: 84 ] للعرب بحضارتها، ونحن لا نستطيع أن ندرك تأثير العرب في الغرب إلا إذا تصورنا حالة أوروبة عندما أدخل العرب الحضارة إليها...) [1]
ويعلنها لكلير بكلمات واضحة:
(... نستطيع أن ندرك أية ثورة فكرية بعثتها في الغرب حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وأية فائدة جناها العلماء اللاتين منها، فكانت هـذه الترجمة أداة جوهرية للتقدم وانتشارا للعلم العربي المنتعش بجانب الغرب...) [2]
ولا زلنا نذكر كلمة مسيو ليبري التي مرت بنا قبل قليل : (... لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوروبة في الآداب عد قرون... ) !!!
ربنا يكون في هـذا الإسراف في أخلاقية العطاء ما يثير نقدا أو اعتراضا.. إذ كيف تسلم خصمك السلاح الذي سيقتلك به، وفي الحضارات جوانب مما قد يتحول إلى سلاح للقتل فعلا ؟!!..
إن الغربيين في قرننا هـذا صنعوا القنبلة الذرية، وأعقبوها بالهيدروجينية فالنيوترونية.. إلى آخره.. ولم يسمحوا لأنفسهم قط أن يعطوا معادلاتها الرياضية والطبيعية لأيدي وعقول الأمم الأخرى..
اللهم إلا من يحسبونه امتدادا لهم.. أفما كان أولى بالمسلمين أن يتوقفوا بعض الشيء ويراجعوا حساباتهم قبل أن يمضوا في العطاء حتى آخر نقطة ؟!! [ ص: 85 ]
هذه مسألة أخرى.. ويكفي العقل الإسلامي شرفا أنه كان عقلا " إنسانيا " يعمل من أجل الإنسان أيا كان موقعه في الزمان والمكان كما علمته عقيدته أن يعمل..
كلنا يعرف الجسور التي انتقلت عليها معطياتنا الحضارية إلى عالم الغرب الغارق -يومها- في سباته العميق.. إسبانيا .. جزر البحر المتوسط .. شواطئ آسيا وأفريقيا .. والأناضول .. فضلا عن تجارب الاحتكاك التاريخي البشري في السلم والحرب بين الأمة الإسلامية وشعوب الغرب..
(... لقد عبرت الحضارة العربية إلى أوروبا -يقول لويس بونغ - وتركت آثارها من خلال ثلاثة جسور هـي بترتيب الأهمية : إسبانيا وصقلية وسورية .. وتبقى إسبانيا أهم طريق مرت عبره الحضارة العربية إلى أوروبة. إن التأثير العربي الدائم في في إسبانيا ثقافيا ولغويا لم يكن فقط بسبب تواجد السلطة العربية في هـذه البلاد زهاء ثمانية قرون، فإن الحضارة العربية تجاوزت أوروبة حتى حيث غدت إسبانيا منطلقا لترجمات في الفلسفة والعلوم العربية على نطاق واسع، وذلك في مدينة طليطلة التي استعادها النصارى عام 1085 م...
وكانت الثقافة العربية تنتقل كذلك إلى أوروبا عن طريق الباحثين إلى جنوبي فرنسا وتولوز ومرسيليا وناربون ومونبليه ، وشهد القرن العاشر انتقال العلوم العربية بصورة مبكرة إلى اللورين مما جعلها مركزا ثقافيا هـاما لمدة قرنين، كما غدت مدن أخرى مراكز للتأثير العربي الحضاري وهي : لييج وكورز وكولون ، ومن اللورين انتقلت الثقافة العربية إلى أجزاء أخرى من ألمانيا وإلى انكلترا . [ ص: 86 ]
وكانت صقلية الجسر الثاني الذي اجتازته الحضارة العربية في طريقها إلى أوروبة.. ولقد شهد القرن الثاني عشر ظهور حضارة نصرانية إسلامية صقلية نتيجة لسياسة اللين التي اتبعها النورمانديون في صقلية، ولسوء الحظ فإن هـذه الظاهرة من التعاون الحضاري فريدة في تاريخ العلاقات بين العرب وأوروبة. وقد أخذ النورمانديون عن العرب " تقاليدهم " وآدابهم وعلومهم، واستخدمت اللغة العربية لغة رسمية إلى جانب اللاتينية واليونانية وضربت النقود على النمط العربي...
وكانت سورية الجسر الثالث للحضارة العربية العابرة إلى أوروبة خلال الحروب الصليبية... في المجالات التجارية والعسكرية والزراعية والصناعية، أما في مجالات العلوم " الصرفة " والفلسفة فلم يكن لسورية كبير تأثير في نقل الحضارة العربية إلى أوروبة، إلى جانب ذلك فإن الأدب الأوروبي اغتنى بما نقلته الحملات الصليبية إلى أوروبة من الفن القصصي والأسطوري للحضارتين البيزنطية والعربية، وكان للتجار الفضل الكبير في نقل الثقافة الإسلامية إلى أوروبة عن طريق سورية في زمن الصليبليين، فقد كانت الطرق التجارية الإسلامية تنطلق من سورية والبحر الأسود، وبعد ذلك صوب المدن التجارية الإيطالية مثل: جنوة ولوكا والبندقية ، وكانت البضائع تنقل عبر جبال الألب إلى المراكز التجارية الكبرى في أوروبة مثل : أوكسبورغ ونورنبرغ وأولم وريجنسبرغ وغيرها... أما الطرق التجارية الشرقية فكانت تنطلق من المناطق الشرقية للبلاد الإسلامية عبر روسيا وإلى بلدان شرقي أوروبة... ) [3] .. [ ص: 87 ]
ومهما يكن من أمر الحضارة الإسلامية مارست وظيفتها في ميدان النشر الجغرافي بالقدرة نفسها على الفاعلية والعطاء التي مارست بها وظيفتيها السابقتين.. لقد كانت في كل الأحوال تعمل من أجل الإنسان..
وثمة ما يجب أن يقال في ختام هـذه الصفحات.. إننا لو مارسنا تحليلا لحجم الدور الذي أداه الإسلام " حضاريا " مقارنا بالأدوار التي أدتها المذاهب والحضارات الأخرى، سواء أكانت وضعية أم دينية محرفة.. فإننا سنجد المسافة واسعة ممتدة يصعب تقريبها، لا سيما إذا وضعنا في الحسبان الوظائف الكبرى الثلاث التي مارستها حضارة الإسلام.
إنه لا الحضارات السومرية والبابلية والمصرية، ولا الحضارات الإغريقية واللاتينية والبيزنطية والهللينية، ولا الحضارات الفارسية والهندية والصينية، على ما قدمته جميعا من عطاء زاخر، بقادرة على أن تسامت هـذا الدور.. وإنه لا الفلسفات اليونانية والهندية ولا المذاهب الوضعية الأوروبية منذ عهود النهضة والتنوير وحتى طوباويات الشتراكيين الرنسيين والانكليز ووجوديات هـيدجر وكيركغارد وسارتر وكامي ومثالية : هـيغل ومادية ماركس وانغلز ..
بقادرة أيضا على أن تسامت الإسلام في قدرته، ليس فقط على تكوين وإنمائها، ولكن أيضا في التحويل القيم والأفكار إلى واقع منظور، وتجربة معاشة، وخبرات تتشكل حية نامية في مساحات الزمان والمكان..
أما الحضارة العربية المعاصرة، بأجنحتها كافة، فيكفيها جنوحا في [ ص: 88 ] الشخصية وانحسارا في الدور الوظيفي ما تعانيه من اختلال محزن في التوازن بين الثنائيات الذي قدر الإسلام على التحقق به بشكل يثير الدهشة والإعجاب.. توازن بين الوحي والعقل، والعدل والحرية، والضرورة والجمال، والفردية والجماعية، والروح والجسد، والطبيعة وما وراءها، والوحدة والتنوع، والمنظور والغيب، والمنفعة والأخلاق، والقدر والاختيار، والحياة والموت، والدنيا والآخرة، والفناء والخلود..
إن البريق الذي يشع من معطيات الحضارة الغربية فيبهر الأبصار.. لن يتجاوز جلدها -بحال- إلى صميم التركيب البيولوجي والسايكولوجي لشخصية هـذه الحضارة الجانحة..
وإنه حقا للمصير الذي ينتظره كل حضارة ترفض الإيمان بالله.. [ ص: 89 ]