[ 3 ]
الحد الآخر للهيكل الحضاري في الرؤية الإسلامية هـو " الإنسان " .. والمسألة تبدأ بحادثة خلق آدم عليه السلام باعتبارها حجر الزاوية في الوجود البشري.. في الظروف والدلالات والرموز والإرهاصات التي رافقته وأعقبته: ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم [ ص: 100 ] عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هـؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هـذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هـو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هـدى فمن تبع هـداي فلا خوف عليهم ولا هـم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هـم فيها خالدون ) ( البقرة 30 – 39 )
تلك هـي الخطوط العريضة الواضحة لمسألة الوجود البشري في العالم.. الصورة المتماسكة البينة التي تساقط عندها قرنا بعد قرن، عشرات المحاولات التي تطرفت باتجاه الخيال اليهودي " الإسرائيليات " أو التبرير العقلي المتوتر.. وبقيت الصورة القرآنية الخالدة على وضوحها وبيانها إننا -من خلال هـذا العرض المركز- نلتقي بقواعد أساسية ومبادئ كلية تتجاوز الجزئيات والتفاصيل، وتلقي [ ص: 101 ] ضوءها الشامل على كل ما يهمنا في الموضوع: خلافة الإنسان عن الله في الأرض، ومنحة القدرة على التعلم والفعل والاستيعاب، وتكريمه الأقصى بسجود الملائكة له.. مجابهته بإبليس وبدء " الصراع " بين الطرفين و " الهبوط " الزمني " الموقوت " إلى الأرض كأول تجربة من تجارب هـذا الصراع.. " تعليق " الدور البشري في العالم على تلقي " الهدى " من الله وحده، وتحديد المصير الذي سيؤول إليه موقف الإنسان " الحر " إزاء هـذا الهدى في الأرض والسماء.
تلك هـي المبادئ الأساسية التي يقدمها لنا هـذا المقطع القرآني، والتي تعيننا على تفهم الرؤية الحضارية للإسلام بأبعادها الشاملة، وهي مبادئ تملك من الوضوح والصلابة والاستمرارية والتماسك ما تبدو إزاءه، غامضة مفككة مضطربة، كل محاولات التفسير الوضعي لنشأة التاريخ البشري، وبدء الخليقة، وأصول الحضارات.. لأنها تكل أمر هـذه اللحظة الفاصلة للصدفة العمياء، أو لتطور وسائل الإنتاج المادية في الخارج، أو لمحاولة " العقل الكلي " ، الغامض غير المحدد؛ لأن يعبر عن نفسه من خلال العالم ويقطع الطريق الطويل من أجل التجلي، أو لرغبة الطبيعة في تنشئة خلائقها وترقيتهم عن طريق منحهم غير المحدد والمبرر لحياة لا تمتلكها هـي نفسها، الأمر الذي يشكل تناقضا مكشوفا إزاء تحديد مصدر الحياة..
لقد أراد الله للإنسان أن يكون خليفته في الأرض، فمنحه القدرة العقلية على التعلم والمقدرة الجسدية على التنفيذ، والعمل، والإبداع، والإرادة " الحرة " لاختيار أسلوب الحياة التي يقوده إليها فكره ودوافعه النفسية والجسدية.. ولكي لا يحس الإنسان " بالدونية " ولا تدور في [ ص: 102 ] خاطره أية فكرة " سلبية " دوره في العالم، رفعت مكانته إلى أعلى مصاف، وأمر الملائكة أن يسجدوا له.. وتلك هـي أسس تقود ولا ريب إلى تصور دور الإنسان في العالم كقوة فاعلة مفكرة مريدة منفذة مستقلة مفضلة.. الأمور التي لا بد منها لأي إبداع حضاري على الأرض.
فإذا ما أضفنا إلى هـذا ما سبق وأن أشرنا إليه من أن العالم قد مهد تمهيدا للدور البشري على أرضيته، وما سنشير إليه بعد قليل من ضرورة " التعاليم " التي كانت تتنزل حينا بعد حين لكي " تضبط " و " تنظم " حركة الإنسان في العالم، أدركنا كم هـي عميقة شاملة متكاملة الأسس التي منحت للبشرية، لكي تعتمدها في ممارسة خلافتها العمرانية أو الحضارية في العالم.
ولا بد من الإشارة هـنا إلى أن مسألة " الاستخلاف " تتكرر أكثر من مرة في القرآن الكريم، الأمر الذي يؤكد مدى ثقلها في تصميم الهيكل الحضاري للرؤية الإسلامية:
( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا ) ( فاطر: 39 ) . ( قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) (الأعراف. 129 ) .
( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف [ ص: 103 ] تعملون ) (يونس: 14) . ( ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون ) ( النمل: 62 ) . ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هـم الفاسقون ) ( النور: 55 )