[ 1 ] روح العمـل.. والإبـداع..
نقرأ في كتاب الله هـذه الدعوة الشاملة للعمل: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) ( التوبة: 105 )
ونستمع إلى الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم وهو ينادينا: ( إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فاستطاع أن يغرسها، فليغرسها، فله بذلك أجر ) .. فنعرف جيدا كيف أن الدور الحضاري للإنسان المسلم يقوم على العمل والإبداع المتواصلين منذ لحظة الوعي الأولى وحتى ساعة الحساب !! ونعلم تماما كيف أن الحياة الإسلامية إنما هـي فعل إبداعي مستمر!!
ويبلغ من تأكيد القرآن على العمل والجهد البشري لإعمار العالم على عين الله وتوجيهه أن ترد اللفظة بتصريفاتها المختلفة فيما يزيد على الثلاثمائة والخمسين موضعا، وهي كلها تشير -سلبا وإيجابا- إلى أن المحور ا لأساسي لوجود الإنسان -فردا وجماعة- على الأرض هـو العمل الذي يتخذ مقياسا عادلا لتحديد المصير في الدنيا والآخرة وهو " موقف " ينسجم تماما مع فكرتي " الاستخلاف " و " الاستعمار " الأرضي..
إن القرآن الكريم يحدثنا أن مسألة خلق الموت والحياة أساسا إنما [ ص: 114 ] جاءت لابتلاء بني آدم أيهم أحسن عملا: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ) ( الملك: 2 ) .
كما يحدثنا في سورة العصر أن موقف الإنسان في العالم سيؤول إلى الخسران بمجرد افتقاد شرطيه الأساسيين: " الإيمان والعمل الصالح " .. ويصدر أمره الحاسم إلى الأمة المسلمة أن تلتزم دورها الإيجابي الفعال في قلب العالم: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) ( آل عمران: 104 – 105 ) .
وفي مكان آخر يصف هـذه الأمة بأنها: ( .... خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . ... ) ( آل عمران: 110 ) .
إن " الإيمان " الذي يقوم عليه بنيان الدين يجيء دائما بمثابة " معامل حضاري " سيمتد أفقيا لكي يصب إرادة الجماعة المؤمنة على معطيات الزمن والتراب، ويوجهها في مسالكها الصحيحة، ويجعلها تنسجم في علاقاتها وارتباطاتها مع حركة الكون والطبيعة ونواميسها فيزيدها عطاء وقوة وإيجابية وتناسقا.. كما يمتد عموديا في أعماق [ ص: 115 ] الإنسان ليبعث فيه الإحساس الدائم بالمسئولية، ويقظة الضمير، ويدفعه إلى سباق زمني لا مثيل له؛ لاستغلال الفرصة التي أتيحت له، كي يفجر طاقاته، ويعبر عن قدراته التي منحه الله إياها على طريق " القيم " التي يؤمن بها و " الأهداف " التي يسعى لبلوغها فيما يعتبر جميعا -في نظر الإسلام- عبادة شاملة يتقرب بها الإنسان إلى الله وتجيء مصداقا للآية: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ( الذاريات: 56 ) .
ويتحدث القرآن الكريم عن هـذا " السباق " الحضاري عندما يصف المؤمنين بأنهم
( يسارعون في الخيرات ) وأنهم ( لها سابقون ) وفي كلا التعبيرين نلمس بوضوح فكرة " الزمن " ومحاولة اعتماده لتحقيق أكبر قدر ممكن من المعطيات ما تلبث أن ترتقي -بمقاييس الكم والنوع- بمجرد أن يتجاوز " المسلم " مرحلة " الإيمان " إلى المراحل الأعلى التي يحدثنا القرآن عنها في أماكن عديدة: " التقوى " و " الإحسان " ..
وهكذا تجيء " التجربة الإيمانية " لا لكي تمنح الحضارة وحدتها وتفردها وشخصيتها وتماسكها، وتحميها من التفكك والتبعثر والانهيار فحسب، وإنما لكي ترفدها بهذين البعدين الأساسيين اللذين يؤول أولهما إلى تحقيق انسجامها مع نواميس الكون والطبيعة: ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ) ( آل عمران: 83 ) .
( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من [ ص: 116 ] الخاسرين ) (آل عمران: 85) ويعطيها ثانيهما قدرات إبداعية أكثر وأعمق تتفجر على أيدي أناس يشعرون بمسئوليتهم، ويعانون يقظة ضمائرهم، ويسابقون الزمن في عطائهم؛ لأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر و: ( ...لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) ( القصص: 83 ) .