[ 3 ] التوازن بيـن الثنائيـات وتوحـدها...
سنطيل الوقوف بعض الشيء عند هـذه المسألة؛ لأنها تكاد تمثل أكثر الملامح الأساسية أهمية في التصور الإسلامي للحضارة.
لقد جاء الإسلام لكي يؤكد موقفه من العمل الحضاري من خلال رؤية متوازنة تضم جناحيها على كل ما هـو روحي أخلاقي ومادي جسدي في الوقت نفسه.. ونجد أنفسنا ونحن نطالع كتاب الله أو نقرأ سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بإزاء تأكيدات عديدة آيات وأحاديث تضع الجماعة البشرية المؤمنة في قلب العالم والطبيعة، وتدفعها إلى أن تبذل جهدها من أجل التنقيب عن السنن والنواميس في أعماق التربة، وفي صميم العلاقات المادية بين الجزئيات والذرات.. إننا بإزاء حركة حضارية شاملة تربط وهي تطلب من الإنسان أن ينظر في السماوات والأرض [ ص: 120 ] بين مسألة الإيمان ومسألة الإبداع، بين التلقي عن الله، والتوغل قدما في مسالك الطبيعة ومنحنياتها وأغاميضها، بين مستوى روحي عال للإنسان على الأرض، وبين تسخير قوانين الكيمياء والفيزياء والرياضيات؛ لتحقيق الدرجة نفسها من التقدم والعلو الحضاري على المستوى المادي " المدني " ، ولم يفصل الإسلام بين هـذه وذاك إنه -كما أكدنا- يقف دائما موقفا شموليا مترابطا ويرفض التقطيع والتجزيء في تقييم الموقف " الحيوي " أو الدعوة إليه.. ولقد انعكس هـذا " التوحد " بين قيم الروح والمادة بوضوح كامل عبر مسيرة الحضارة الإسلامية التي قطعت -كما رأينا- القرون الطويلة وهي تحتفظ بتوازنها المبدع بين الطرفين، وأنجزت وابتكرت وكشفت ونفذت الكثير الكثير من المعطيات الحضارية التي لم تهمل جانبا من الجوانب المرتبطة جميعا ارتباطا وثيقا بخلافة الإنسان على الأرض، ودوره الحضاري في العالم... وما كان لها إلا أن تكون كذلك وهي تعمل في ظلال مناخ حضاري متوازن نتلمسه بوضوح من خلال آيات عديدة هـذه بعض نماذجها: ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ) ( الأعراف: 185 ) ( فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا ) ( عبس: 24 -31 ) .
( فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب ) ( الطارق: 5 -7 ) [ ص: 121 ]
( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكل عبد منيب * ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد ) ( ق: 6 – 10 ) .
( ... انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ... ) ( الأنعام: 99 ) .
( فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها ... ) ( الروم: 50 ) .
( ... وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ... ) ( البقرة: 259 ) .
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت ) ( الغاشية: 17 – 20 ) ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ... ) ( العنكبوت: 20 ) ...
إن القرآن -من خلال هـذه الآيات وغيرها كثير- يريد أن يضعنا في قلب الطبيعة على مستوى الكون والعالم وأن يختار لنا موقعا [ ص: 122 ] " تجريبيا " يعتمد النظر والتمعن والفحص والاختبار من أجل الكشف باتجاه الروح أو الأخلاق، ونهمل التكييف والتطوير الماديين الملازمين لأية حضارة متوازنة تريد أن تتحقق بالشرط الأساسي للوجود الإنساني على الأرض وهو عبادة الله والتوجه إليه أخذا وعطاء.
إن هـنالك بداهة من أشد بداهات الإيمان أهمية تلك هـي أن الله سبحانه ما دام قد " عبر " عن إبداعه وقدرته الكلية على مستوى الروح والمادة والإنسان والطبيعة، فليس ثمة معنى أبدا لأي موقف بشري من المادة أو الطبيعة يتميز بالهروب أو الاحتقار أو السلبية أو الاستعلاء، إن هـذا " الموقف " مهما كانت درجته غير مبرر في بداهات الإيمان، ولا في مقتضيات " الاستخلاف " ليس هـذه فحسب بل إنه يقف نقيضا لهذه البداهات والمقتضيات، ومن ثم فهو مرفوض في الرؤية الإسلامية ابتداء..
إن كتاب الله يوجه أنظارنا في الآيات السالفة إلى أشد الأمور مادية وثقلا: الطعام، النطفة الأولى، الأرض والسماء والجبال، وإلى دنيا النبات والحيوان.. ويدعونا لأن نسير بحثا عن سنن هـذه العوالم وإدراكا لأبعاد خلقها المعجزة التي لا تتحقق إلا بإرادة كلية نافذة لا يعجزها شيء.. إن القرآن يدعو إلى حضارة تنمو وتزدهر على كل المستويات الروحية والأخلاقية والطبيعية، وهو يخصص المقاطع والآيات الطوال للإبداع الحضاري في مستواه الطبيعي المادي، ولكن شرط أن تضبطه القيم والمعايير الدينية الآتية من عند الله.
إن كل آية أو مقطع قرآني يتناول مسألة طبيعية، أو حيوية، أو مادية [ ص: 123 ] ينتهي بأفعال التقوى والإيمان وبالدعوة إلى ربط أية فاعلية بالله.. وهذا التأكيد المتكرر له مغزاه الواضح.. إن منطق (التوازن الحركي) الذي يرفض الانحراف أو السكون هـو القاعدة التي نتلمسها في القرآن الكريم بوضوح من خلال عدد كبير من آياته البينات، والتي تكفل نموا سليما لأية حضارة تستطيع أن تحافظ على نقطة التوازن بين تجربتي الروح والمادة، ولا تنحرف باتجاه إحداهما مهملة الأخرى أو ضاغطة عليها مستخدمة إزاءها أساليب القمع والكبت والتحديد.. التوازن الذي يمكن الحضارة من الحركة الدائمة؛ لأن الأهداف التي يضعها أمامها تأخذ مستويات صاعدة لا يحدها أفق، ولا يقف في طريقها تحديد صارم.. إنها تبدأ بتأمين متطلبات الحياة اليومية المباشرة، وتتقدم -بعد هـذا- صوب إعمال الفكر في قلب العالم للكشف عن نواميسه، أو في أمداء الكون لإدراك سره المعجز.. هـذه الفاعلية التي ما لها من حدود تقف عندها.. ومن ثم توالي خطواتها لتنفيذ أكبر قدر من ضمانات التجربة الروحية الشاملة، وإيصالها إلى مطامحها التي تتجاوز الأرض إلى السماء، وتغادر اللحظة الموقوته العابرة إلى عالم الخلود.
إن القرآن الكريم يبين لنا -أكثر من مرة- أن علاقة الإنسان بالحاجات المادية الجسدية علاقة صميمة، وأن حبه لإشباعها مركوز في جبلته التي يشكلها الجسد تماما كما تحركها الروح والإرادة والقدرات العقلية: ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ) ( آل عمران: 14) [ ص: 124 ]
إلا أن الخطوة الحاسمة التي يخطوها الإسلام متميزا بها عن سائر المذاهب والنظريات، أنه يضع أهدافا أعلى، وقيما أوسع وأكثر شمولا من مجرد تضييق نطاق الحياة البشرية في البحث عن إشباع الحاجات الجسدية على ثقلها؛ لأن تركيز الهدف النهائي للإنسان في الإشباع وحده يشده إلى الأرض، ويلصقه بترابها ويبعده عن مواقع الاستشراف الإيماني الشاملة الرحبة: ( ... والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ) ( محمد: 12 ) .
ولأن توسيع نطاق المناشط والأهداف البشرية، وتنويعها، وربطها بآفاق أرقى وأشرف وأكثر سموا يعطي الحياة قيمتها الحقيقية، ويمكن الإنسان من تأدية مهمة الاستخلاف الأرضي بحالة من التوازن الفذ، الذي يحميها من الالتصاق الساكن بالأرض، ويمنعها كذلك من التهويم السلبي في سماوات الروح: ( ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب * قل أأنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد * الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار * الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ) ( آل عمران: 14 – 17 ) .
إننا نستطيع أن نتلمس بوضوح موقف القرآن الكريم إزاء الجانب [ ص: 125 ] المادي -الجسدي عموما، من خلال حشد كبير من سوره ومقاطعه وآياته.. إن أي حديث عن الكون والطبيعة والعالم، وتسخير السماوات والأرض، ومسائل الرزق والكسب والسعي، وأمور الغرائز والدوافع الجسدية، والدعوات المستمرة للتنقيب عن أسرار الطبيعة لصالح الموقف البشري على الأرض، ولأداء مهمته كخليفة جاء لإعمار العالم، ونداءات التسلح واعتماد القوة المادية -إلى جانب القوى الروحية- لصد العدوان، أو لتنفيذ متطلبات حركة الجهاد الدائمة، وتنظيمات الحياة اليومية المتشعبة وغيره كثير، تأكيد واضح تماما للأهمية التي يوليها القرآن الكريم للجانب المادي، إلا أنه يضع دائما في صميم هـذه العلاقات والممارسات ولا نقول بمواجهتها، إذ أن الرؤية الإسلامية ترفض الثنائية، والازدواج يضع قضايا الروح والقيم والأهداف البشرية العليا التي تحفظ توازن الموقف البشري في الأرض، وتمكنه من أداء مهمة الاستخلاف التي أنيطت به..
وفي مقابل " حركة التوازن " هـذه التي يؤكدها الإسلام ويدعو المؤمنين إلى التشبث بها، والتحرك وفق مقاييسها الموضوعية العادلة.. تبدو أية تجربة بشرية تجنح باتجاه المادية مهملة الروح، أو تتشبث بالروحية مهملة المتطلبات المادية، شذوذا وانحرافا لأنها تزوير وتزييف للموقف البشري في العالم، وقسر لتجربة الإنسان الفردية والجماعية على التشكل فيما يأباه تكوينها الأساسي القائم على التداخل والتكامل والتوازن بين قيم الروح وقيم المادة على السواء، ولن تكون نتيجة هـذا الانحراف الذي يأخذ في الحالة الأولى اتجاها ماديا صرفا، أو علمانيا يفصل بين شئؤون الدين والدنيا. ويأخذ في الحالة الثانية اتجاها رهبانيا هـروبيا يرفض الدخول في قلب العالم لتغييره بما [ ص: 126 ] ينسجم ومهمة الإنسان في الأرض.. لن تكون نتيجة هـذا الانحراف إلا تمزيق الذات الإنسانية على المستوى الفردي والنفسي، الأمر الذي ينعكس على طبيعة النشاط الاجتماعي فيصيبه هـو الآخر بالتمزق والتشتت والازدواج، وفقدان الهدف، وانتشار الإحساس المدمر بالعبثية، وباللاجدوى، وسيادة نزعة التشاؤم والانشقاق.. وهي مسائل تبلغ -بتصاعدها المستمر- درجة من الحدة تجعل الفعل الحضاري عاجزا عن الإبداع والإنجاز، وتقوده إلى التدهور والانهيار والسقوط.