مقـدمـة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد:
فإن أمراض المسلمين -في عصرنا هـذا- قد تعددت وتشعبت وفشت حتى شملت جوانب متعددة من شئونهم الدينية والدنيوية، ومن العجيب أن الأمة المسلمة لا تزال على قيد الحياة، لم تصب منها تلك الأدواء -بحمد الله- مقتلا على كثرتها وخطورتها، وكان بعضها كفيلا بإبادة أمم وشعوب لم تغن عنها كثرتها ولا وفرة مواردها، ولعل مرد [ ص: 17 ] نجاة هـذه الأمة إلى هـذا اليوم -رغم ضعفها- هـو وجود كتاب ربها وسنة نبيها -عليه أفضل الصلاة والتسليم- بين ظهرانيها ثم دعوة نبيها صلى الله عليه وسلم واستغفار الصالحين من أبنائها ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) [الأنفال: 33].
وإن من أخطر ما أصيبت به هـذه الأمة في الآونة الأخيرة مرض (الاختلاف والمخالفة ) .. الاختلاف في كل شيء، وعلى كل شيء، حتى شمل العقائد والأفكار والتصورات والآراء إلى جانب الأذواق والتصرفات والسلوك والأخلاق؛ وتعدى الاختلاف كل ذلك حتى بلغ أساليب الفقه، وفروض العبادات وكأن كل ما لدى هـذه الأمة من أوامر ونواه يحثها على الاختلاف أو يدفعها إليه والأمر عكس ذلك تماما، فإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما حرصا على شيء -بعد التوحيد- حرصهما على تأكيد وحدة الأمة، ونبذ الاختلاف بين أبنائها، ومعالجة كل ما من شأنه أن يعكر صفو العلاقة بين المسلمين، أو يخدش أخوة المؤمنين، ولعل مبادئ الإسلام ما نددت بشيء - بعد الإشراك بالله - تنديدها باختلاف الأمة، وما حضت على أمر -بعد الإيمان بالله- حضها على الوحدة والائتلاف بين المسلمين. وأوامر الله ورسوله واضحة في دعوتها لإيجاد الأمة التي تكون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه أصابه الوهن كله.
ولكن رسالة الإسلام -مع ذلك- رسالة واقعية تتعامل مع الإنسان على ما هـو عليه، وخالق الإنسان -تبارك وتعالى- يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، فقد وهب لعباده عقولا ومقدرات متباينة من شأنها أن [ ص: 18 ] تؤدي إلى اختلاف في نظرتهم وأفكارهم ومواقفهم من كثير من الأشياء، ولذلك فإن الإسلام يتسع إلى تلك الاختلافات كلها التي لا تهدد وحدة الأمة، فيكفي أن تتفق الآراء، وتلتقي التصورات، وتتوحد المواقف إزاء القضايا الكبرى والقواعد الأساسية، أما ما عداها من أمور فرعية، وقضايا ثانوية مما يساعد اختلاف الرأي فيها على الجنوح نحو الأفضل والأمثل فلا ضير فيه على أن يكون لهذا الاختلاف ضوابطه وحدوده، وقواعده وآدابه، وألا يؤثر على وحدة فكر الأمة ومواقفها من القضايا الأساسية الكبرى. فما حقيقة الاختلاف؟ وما الحدود التي لا يجوز تجاوزها فيه؟ وما أسبابه؟ وما القدر المسموح به منه؟ وما ضوابطه وآدابه؟ وما السبيل للتخلص من سلبياته؟ هـذا ما سنحاول بحثه في هـذه المعالجة، إن شاء الله تعالى.
ونظرا لتعدد جوانب هـذا الموضوع فقد تنوعت مصادره فله جانب منطقي جدلي تكفلت ببحثه الكتب المنطقية الخاصة بآداب البحث والمناظرة [1] . وله جانب أصولي تناولته الكتب الأصولية التي تعرضت [ ص: 19 ] لمباحث أسباب الاختلاف [2] .
كما تعرض الأصوليون له في بعض مباحث القياس [3] ، وله جانب فقهي يرد في ثنايا الكتب التي عنيت [ ص: 20 ] بالبحث في مجال (الفقه المقارن ) أو ما يسمى بكتب (الخلافيات) .
وأما الآداب فيمكن الحصول على أمثلتها ونماذجها من كتب الطبقات والتراجم والمناظرات والتاريخ وغيرها.
وقد حاولنا في هـذا البحث أن نستفيد من جميع المصادر، كما أننا رتبناه على مقدمة وستة فصول وخاتمة، ثم أردفنا ذلك بمسرد للهوامش والحواشي والتعليقات لرغبتنا أن يكون كل ما أوردناه فيه موثقا، منسوبا إلى مصادره، وأعقبنا ذلك كله بفهرس للموضوعات، ونسأل الله التوفيق والسداد وأن يجمع كلمة المسلمين، ويوحد بين قلوبهم على حبه، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم ويؤلف بينهم، ويزيل أسباب النفرة والخلاف..
إنه سميـع مجيب
الدكتور: طه جابر فياض العلواني [ ص: 21 ]