الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الخاتمـة

              وريثما يتم تحقيق الهدفين لا بد من وعي الطليعة المؤمنة الجملة من الأمور حتى تأمن على نفسها العثار منها:

              1 - أهمية إدراك الشباب المسلم أنه وإن كان الباري جلت قدرته قد يسر القرآن للذكر وهيأ لنا سبل الاطلاع الواسع على السنة من خلال كتبها الكثيرة المتوفرة فإن الأخذ عن تلك المصادر بمبادرات فردية فيه الكثير من المحاذير، فلا بد من الاستعداد السابق ثم التزود لذلك بأدواته التي فصلها أهل الاختصاص من معرفة ضوابط الاستنباط وقواعده، وإتقان العربية وأساليب التعبير فيها، ومعرفة [ ص: 159 ] علوم الكتاب والسنة والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والعام المراد به الخصوص، والمطلق والمقيد من النصوص وغير ذلك من عوارضها، فإن أي قول يصدر عن المسلم من غير إحاطة ومعرفة بتلك الوسائل إنما هـو قول في الدين بالتشهي والخرص والتخمين، من غير نور ولا هـدى ولا علم، ومن فعل ذلك فقد ركب مركبا صعبا وأودى بنفسه والعياذ بالله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قال في القرآن، بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ) [1]

              وهذا النوع من المعرفة لا يمكن تحصيله من خلال قراءة كتاب أو كتابين، بل لا بد من دراسة منهجية متقنة، تضع في يد الدارس مفاتيح تلك العلوم التي تهيء له سبيل الولوج إلى ساحة الفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية، وحتى تؤتي تلك الدراسة أكلها لا بد أن تعتمد على البحث المتقصي الذي يقوده الأستاذ المتقي والموجه المجيد، والناقد البصير، في ظل من تقوى الله وابتغاء الأجر منه.

              2 - لا بد من التنبيه إلى أن هـذه الشريعة أنزلت لتسعد الناس في الدارين: الدنيا والآخرة، ولتحقق لهم مصالحهم بما ينسجم وقدراتهم العقلية التي أنعم الله بها على عباده، فكرمهم سبحانه [ ص: 160 ] على سائر مخلوقاته، ولم تتضمن الشريعة السمحاء أمرا لا يطيق الناس إتيانه أبدا ولذلك قال الله تعالى: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج )

              (الحج: 78) وقد يسر سبحانه على عباده حتى يعملوا بهذا الدين في ظل المحبة لا القسر والإكراه، ويقول جلت قدرته في ذلك: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (البقرة: 185) و ( يريد الله أن يخفف عنكم ) (النساء: 28) .

              وكل الأحكام الشرعية حوت مصلحة العباد وحرصت على تحقيق النفع لهم، ولا شيء فيها يعود الله تعالى نفعه؛ ذلك لأنه تعالى هـو الغني الحميد، ولذلك فإنه لا بد من فهم جزئيات الشريعة في ضوء تلك الكليات ونحوها، ومن لم يحط بكليات الشريعة، ويفهم مقاصدها، ويدرك قواعدها فإنه لن يستطيع أن يرد الفروع إلى الأصول والجزئيات إلى الكليات، يقول الإمام ابن برهان [2] : ( ... إن الشرائع سياسات يدبر بها الله عباده، والناس مختلفون في ذلك بحسب اختلاف الأزمنة، فلكل زمان [ ص: 161 ] نوع من التدبير، وحظ من اللطف والمصلحة تختص به، كما أن لكل أمة نوعا من التدبير يصلحهم وإن كان ذلك مفسدة في حق غيرهم )

              [3] .

              وقد اتفقت كلمة علماء الأمة على الأمة على أن أحكام الشريعة - كلها - معللة بمصالح العباد، ولأجلها شرعت، سواء منها ما هـدانا الله لمعرفته بالنص عليه أو بالإيماء إليه؛ وما لم نهتد إليه فلحكمة يعلمها الله جل شأنه، ولذلك فإن كثيرا من الأحكام الاجتهادية تتغير بتغير الأزمنة، وقد تختلف باختلاف الأشخاص وطاقاتهم وقدراتهم وظروفهم.

              كذلك ينبغي أن ندرك أن نصوص الكتاب والسنة، منها ما هـو قطعي في ثبوته، وهو القرآن العظيم والمتواتر من السنة.. وأن من السنة ما هـو ظني في ثبوته، مثل: أخبار الآحاد. ودلالة النص قد تكون ظنية، وقد تكون قطعية كذلك، ومعرفة كل ذلك له أثره في الاستنباط والاجتهاد والفهم من النص، فليس لأحد أن ينكر على الآخرين ما قد يفهمونه من النص من فهم مخالف لفهمه، ما دام اللفظ يحتمله، والدليل يتسع له، ونصوص الشرع الأخرى لا تناقضه أو تعارضه، ومعظم الأحكام المتعلقة بالفروع والمتناولة للنواحي العملية هـي من النوع الذي يثبت بالطرق الظنية رحمة من الله تعالى بعباده، ليتسع للناس مجال الاجتهاد فيها، وما دام [ ص: 162 ] الشارع الحكيم قد فتح باب اليسر للعباد، وجعل مصلحة الناس معتبرة فلا يليق بأحد أن ينسب مخالفا له في أمر من هـذه الأمور إلى كفر أو فسق أو بدعة، بل عليه، يلتمس لمخالفه من الأعذار ما يجعل حبل الود موصولا بينهما، فيحظى بحبه وتقديره ويرعى أخوته ووداده.

              3 - إن من أهم الواجبات أن يدرك الجميع أن أخوة الإسلام ووحدة صفوف المسلمين المخلصين والحفاظ عليها ونبذ كل ما يسيء إليها أو يضعف من عراها من أهم الفرائض وأخطرها، وعبادة من أهم العبادات، وقربة من أفضل القربات لأننا بتلك الأخوة نقوى على التصدي لكل العقبات التي تعيق استئناف الحياة الإسلامية على الصورة التي ترضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويكفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرنا من الفرقة بأن أهدر دم المفرق للجماعة، ولذلك فإن التفريط بالأخوة الإسلامية أو المساس بها لمجرد اختلاف في الرأي أمر لا يجوز لمسلم أن يفعله، أو أن يسقط في شراكه، ولا سيما في هـذه الظروف التي تداعت فيها علينا الأمم، تريد أن تطفئ جذوة الإيمان التي بدأت تتقد في القلوب، وتبيد البذرة الطيبة التي بدأت تشق التربة رغم الأيدي العابثة التي تنهال عليها وتحاول اجتثاثها.

              إن الأخوة في الله ووحدة القلوب بين المسلمين تحتل المراتب الأولى للواجبات، بل هـي في مقدمتها لأنها شقيقة التوحيد وقرينته، كما أن هـناك مراتب للمنهيات يقع النيل من الأخوة في [ ص: 163 ] مقدمتها كذلك. ولذلك فإن علماء السلف كثيرا ما يفعلون المفضول ويتركون الأفضل منه مراعاة للائتلاف وخروجا من الخلاف، وقد يتركون المندوب، في نظرهم، ويفعلون الجائز تحقيقا لذلك.

              قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (المسلمون متفقون جواز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة، يصلي بعضهم خلف بعض، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ بالبسملة، ومنهم من لا يقرأ بها، ومع هـذا فقد كان بعضهم يصلي خلف بعض، مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرءون بالبسملة لا سرا ولا جهرا وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك بعدم وجوب الوضوء فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد ... وكان أحمد يرى الوضوء من الحجامة والرعاف فقيل له: فإن كان إمامي قد خرج منه الدم ولم يتوضأ أصلي خلفه؟ فقال: كيف لا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك؟ [4]

              ولا يجولن بفكر أحد أن حرصنا على الأخوة الإسلامية ووحدة صف المسلمين يعني التساهل في قضايا العقيدة [ ص: 164 ] الأساسية التي لا تحتمل التأويل ضمن حدود القواعد الثابتة في العقيدة؛ ذلك لأن الحرص على مجابهة أعداء الأمة لن يدفعنا إلى أن نضع أيدينا بأيدي الذين ليس لهم نصيب من الإسلام إلا الأسماء بحجة الحرص على الأخوة، فالقضايا الخلافية التي لا يجوز أن تفرقنا هـي تلك التي اعترف بها كرام العلماء من أئمة السلف، وتعاملوا معها من خلال آداب فاضلة، وكان لديهم من الأدلة ما يجيز أكثر من وجه ) .

              4 - كما أن الأمور المعروفة أن الباري سبحانه قد شرع للناس تأدية العبادات في كثير من الأمور على درجات تتنوع بين الأفضل والاختيار والجواز، وإن كانت الدرجات السابقة كلها تلتقي في زاوية القبول عند الله تعالى، لكنها تتفاوت في المراتب، فكثير من الفرائض والواجبات لها صور متعددة تدخل ضمن هـذه الدرجات الثلاث، فيمكن أن تؤدى العبادة على أفضل صورها الشرعية فتقبل مع ثواب الفضل، كمن يصلي أول الوقت مع الجماعة ويؤدي سائر السنن المطلوبة للصلاة، وهناك الاختيار وهو تأدية العمل نفسه دون مرتبة الأفضل كمن يصلي في الوقت ولكن ليس في أوله، بل في وقت الاختيار منه، ثم المرتبة الثالثة: مرتبة الجواز وهي المرتبة التي إن قبل العبد لنفسه بأقل منها سلك في عداد المقصرين، وفي الأثر (حسنات الأبرار سيئات المقربين ) فمن انتظر من جميع الناس على اختلاف ظروفهم وأوضاعهم تحقيق الصورة المثلى للإسلام، فقد أراد أمرا [ ص: 165 ] ليس من السهل إدراكه، ولولا تفاوت مراتب العبادات والطاعات لما تباينت درجات المؤمنين في الجنة، فطاقات الناس مختلفة وقدراتهم متباينة وكل ميسر لما خلق له.

              " أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره [5]

              أن أناسا لقوا عبد الله بن عمر بمصر فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها ولا يعمل بها فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك، فقدم وقدموا معه، فلقيه عمر رضي الله عنه ، فقال: متى قدمت؟ قال: كذا وكذا، قال: أبإذن قدمت؟ قال الحسن (راوي الحديث ) : (فلا أدري كيف رد عليه ) فقال: يا أمير المؤمنين إن أناسا لقوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياء من كتاب الله تبارك وتعالى، أمر أن يعمل بها ولا يعملون بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك. فقال: اجمعهم لي، قال: فجمعتهم له ... فأخذ أدناهم رجلا فقال: أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم. فهل أحصيته (أي عملت به كله ) في نفسك؟ قال: اللهم لا (ولو قال نعم لخصمه ) قال: فهل أحصيته في بصرك؟ هـل أحصيته في لفظك؟ هـل أحصيته في أثرك؟ قال: ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم، فقال: ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن تكون لنا سيئات. قال: وتلا قوله تعالى: ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [ ص: 166 ] وندخلكم مدخلا كريما ) (النساء: : 31 ثم قال: هـل علم أهل المدينة؟ أو قال: هـل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا : لا. قال: لو علموا لوعظت بكم. أي: لنكل بهم ليجعلهم عبرة وموعظة لغيرهم. "

              وفي هـذا درس بليغ يوضح فيه سيدنا عمر رضي الله عنه أن الصورة المثلى التي رسمها القرآن العظيم للمسلم هـي صورة أنموذجية ينبغي أن يحاول المسلم تحقيقها، ولكن حين يقصر عنها فعليه أن يدرك أن رحمة الله واسعة، وأنه حين تجتنب الكبائر فإن المسلم على خير كثير إي شاء الله، ولكن عليه أن يطمح دوما إلى الصورة المثلى ولا يعجب بالأدنى فيقف عند حدوده.

              5 - ولعل مما يساعد على التقليل من أسباب الاختلاف في الوقت الحاضر، ويبعث على التحلي بآدابه: معرفة أسباب اختلاف الفقهاء من السلف رضوان الله عليهم، وفهم تلك الأسباب ومدى موضوعيتها، ليكون ذلك من بواعث التمسك بـ (أدب الاختلاف ) .

              فإنهم حين اختلفوا، إنما اختلفوا لأسباب موضوعية، وكانوا جميعا مجتهدين، وكان كل واحد منهم في طلب الحق كناشد ضالة لا فرق لديه بين أن تظهر تلك الضالة على يديه أو على يدي سواه.

              6 - ولعل من الأمور المفيدة في حمل المسلمين على التمسك بآداب الاختلاف معرفة المخاطر الهائلة، والتحديات الخطيرة، والخطط الماكرة التي يعدها أعداء الإسلام للقضاء على الطليعة [ ص: 167 ] المؤمنة التي تحمل لواء هـذه الدعوة، وليس في حساب الأعداء أبدا أن تفلت من يدها، إن استطاعت، فئة دون أخرى، فالمهم هـو القضاء على العامل للإسلام على اختلاف مذاهبهم وتباين وجهات نظرهم، وهذا يجعل إثارة أي اختلاف بين المسلمين، أو تنمية أسبابه، أو تجاوز آدابه خيانة عظمى لأهداف الأمة، وجريمة كبرى في حقها لا يمكن تبريرها أو الاعتذار عنها بحال.

              7 - وقبل هـذا وبعده لا مناص من التزام تقوى الله في السر والعلن وابتغاء رضاه في حالتي الوفاق والخلاف، مع الحرص على فقه دين الله والتجرد عن الهوى والبعد عن نزغات الشيطان، ومعرفة سبل إبليس والحذر من شراكه، وحسب الأمة ما لقيت وعانت، سبل إبليس والحذر من شراكه، وحسب الأمة ما لقيت وعانت، وقد آن الأوان لتثوب إلى رشدها، وتستنير بكتاب ربها، وتعض على سنة نبيها صلى الله عليه وسلم بالنواجذ، ولعل الله يكتب إنقاذ الأمة على أيدي هـذا الجيل من أبنائه البررة، إذا صدقت النية مع الله، واتخذت من السبل ما هـو كفيل بقيادة الركب نحو شاطئ الأمان، بعد أن طال ليل التيه والضلال، ولا يبخلن الصالحون من الأمة بالدعاء للعصبة المؤمنة بالسداد والتوفيق، نسأله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بماعلمنا ويزيدنا علما، ويجمع على الحق كلمتنا، ويلهمنا الرشد والسداد في أمورنا كلها، ويقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وألا يجعلنا كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثا، إنه أهل ذلك سبحانه، والقادر عليه.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. [ ص: 168 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية