الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              حالة الأمة في الأحقاب الأخيرة

              كانت تلك حالة الأمة التي غفت في أحضان التقليد، ونامت على أحلام ماض مجيد، فمنذ وقوع الفصام النكد بين أولي الأمر ومصادر التشريع لهذه الأمة والناس حيارى تتقاذفهم الأهواء، وعلماء الأمة في شغل عنهم، كل بما يشغله ويرى أنه الأسلم، حتى إن من يطلع على تراث الأمة يكاد لا يصدق أن هـذا الخلف الجامد المتحجر من ذلك السلف الحي المستنير؛ ولما قامت النهضة الأوروبية الحديثة، والأمة على تلك الحال، وجد الأوروبيون أمامهم أمة لم يبق من مقوماتها الحقيقية شيء يذكر:

              فالعقيدة خاملة، وإيمان الكثيرين مزعزع، واليقين لم يعد يقينا، والسلوك منحرف، والاستقامة معدومة، والفكر جامد، والاجتهاد معطل، والفقه مفقود، والبدع قائمة، والسنة نائمة، والوعي غائب، حتى لكأن الأمة ليست هـي، وحالة كهذه قد أغرت الذين كانوا يتربصون بالأمة، فاهتبل الغربيون هـذه الفرصة واحتلوا البلاد وامتلكوا أزمة العباد، وقضوا على البقية الباقية من مقومات شخصية الأمة حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه اليوم، من هـوان واستكانة، وغدت مقاليد أمورنا بأيدي أعدائنا يقررون مصائرنا، فنلتمس عندهم الحل لمشاكل أوجدناها بأنفسنا، وشكلناها بأيدينا.

              وخلال ذلك حاولت الأمة بما بقي لها من صبابة الحياة أن تنهض من [ ص: 148 ] كبوتها، وتستقيل من عثرتها، فباءت كل محاولاتها بفشل ذريع؛ لأنها أخطأت السبل المؤدية إلى النجاح وخالفت سنة الله، فقد قامت تلك المحاولات من منطلق تقليد الأجنبي والتبعية للمحتل حتى ازدادت أحوالها سوءا وبدأ الجيل الجديد من الأمة يتطلع إلى الحل السليم، ويبحث عن البلسم الشافي، فبدأت فئات لا بأس بها من أبناء الأمة تدرك (أن آخر هـذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح بها أولها) فاتجهوا نحو الإسلام ينهلون من عذب معينه، وظهر ما اصطلح على تسميته (الصحوة الإسلامية) وما كان لأعداء الإسلام على اختلاف نحلهم إن يخلوا الساحة لهذه الدعوة المباركة، وما أكثر الأسلحة التي يستخدمونها لمحاربتنا - وبعض أبناء جلدتنا الذين يعيشون بين ظهرانينا من تلك الأسلحة - حيث لم ير بعضهم بأسا في أن يكونوا معاول هـدم بأيدي أعداء الأمة، وقد تمثل ذلك في أجهزة كثيرة تحاول الكيد للعصبة المؤمنة، وتحول بينها وبين تمهيد السبيل لاستئناف الحياة الإسلامية، مستعملة شتى الأسلحة، ناصبة بوجه هـذه الصحوة أخطر التحديات، فإذا بهذه الصحوة المباركة توجه التحدي المقيت (الاختلاف ) فيما تواجه من تحديات هـائلة، وكانت التحديات الأخرى كافية لاستنزاف جهد العاملين المخلصين بله (الاختلاف ) وإذا بكثير من الجهود تتفتت على هـذه الصخرة المقيتة، فبدأنا نرى شبابا ينتسبون إلى السلفية، وآخرون ينتسبون إلى أهل الحديث، وفريقا ينتسبون إلى المذهبية، وآخرين يدعون اللا مذهبية، وبين هـؤلاء وأولئك تتبادل الاتهامات المختلفة من التكفير والتفسيق والنسبة إلى البدعة والانحراف [ ص: 149 ] والعمالة والتجسس ونحو ذلك، مما لا يليق بمسلم أن ينسب أخاه إليه بحال، فضلا عن أن يعلنه للناس بكل ما لديه من وسائل غافلين أو متغافلين عن أن ما يتعرض له الإسلام من محاولات استئصال أخطر على الأمة من تلك الاختلافات، وإذا كان للأزمة المجتهدين أسباب اختلاف تبرر اختلافهم، وتخفف منها، وتساعد على وضعها ضمن ضوابط الاختلاف، فإن أرباب الاختلاف من المعاصرين لا يملكون سببا واحدا من أسباب الاختلاف المعقولة، فهم ليسوا بمجتهدين، وكلهم مقلدون بمن فيهم أولئك الذين يرفعون أصواتهم عاليا بنبذ التقليد ونفيه عن أنفسهم، وأنهم يأخذون الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة دون تقليد، وهم في الحقيقة يعكفون على بعض كتب الحديث، ويقلدون كاتبيها في كل ما يقولون في الحديث ودرجته ورجاله ويتابعونهم في كل ما يستنبطونه من تلك الكتب أو ينقلونه من الفقهاء، وكثير منهم ينسب لنفسه العلم بالرجال ومعرفة مراتب الجرح والتعديل وتاريخ الرجال، وهو في ذلك لا يعدو أن يكون قد درس كتابا من كتب القوم في هـذا الموضوع أو ذاك فأباح لنفسه أن يعتلي منبر الاجتهاد، وحق له أن يتعالى على العباد، وحري بمن نال نصيبا من العلم أن ينهاه علمه أن يكون من الجاهلين، وأن يترفع عن توزيع الألقاب واتهام الناس، ويدرك خطورة ما تتعرض له عقيدة الأمة فيعمل على الذب عنها، ويحرص على جمع القلوب، وما دام الجميع يقلدون ويأخذون عن أئمتهم أقوالهم على اختلافهم - وإن زعموا غير ذلك - فلا أقل من أن يلتزموا بآداب الاختلاف التي عاش في كنفها كرام الأئمة من السلف. [ ص: 150 ]

              لقد كان المؤمنون المخلصون يؤملون أن تنطلق هـذه الصحوة الخيرة لتردم ما أحدثته الأفكار الكافرة والملحدة، والعقائد الزائفة المنحرفة من هـوة سحيقة في كيان هـذه الأمة التي اجتالت الشياطين عقول وأفئدة الكثير من أبنائها، وتطهر قلوبهم من ذلك الزيغ لتحل محله العقيدة الإسلامية الصحيحة، ثم تنطلق برسالة الله إلى هـذا العالم الفسيح فتعلو كلمة الله في الأرض، ولكن ما يحز في النفس أن يعمل بعض أبناء المسلمين ما يستحق من الأمور وما لا يستحق، الأمر الذي شغل المسلمين بأنفسهم، وبدد الكثير من طاقاتهم، وخلط أمامهم الأشياء خلطا عجيبا جعلهم لا يفرقون بين الهنات الهينات وعظائم الأمور، وبين يسيرها وجليلها، فكيف يمكن لقوم هـذا شأنهم أن يعالجوا قضاياهم حسب أهميتها وأن يرتبوا الأمور بشكل يجعلهم قادرين على استئناف مسيرة الحياة الإسلامية؟!

              إن إثارة الخلاف بين المسلمين، أو تنمية أسبابه خيانة عظمى لأهداف الإسلام، وتدمير لهذه الصحوة المعاصرة التي أحيت الأمل في النفوس، وتعويق لمسيرة الإسلام، وتثتيت لجهود العاملين المخلصين لا يرضي الله جل شأنه، ولذلك فإن من أكثر وأهم واجبات المسلمين اليوم عامة - والدعاة منهم خاصة - بعد الإيمان بالله تعالى: العمل على توحيد فصائل حملة الإسلام ودعاته، والقضاء على كل عوامل الخلاف بينهم، فإن كان لا محالة فليكن في أضيق الحدود، وضمن آداب سلفنا الصالح، ولا يمنع اختلاف الآراء من التقاء القلوب [ ص: 151 ] لاستئناف الحياة الإسلامية الكريمة ما دامت النية خالصة لوجه الله تعالى، وعندها فلن يعدموا التوفيق والتأييد من الله.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية