الفصل الثاني
تاريـخ الاختـلاف وتطـوره
اختلاف الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يؤدي إلى الاختلاف بالمعنى الذي ذكرناه؛ ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجع الجميع باتفاق، و مردهم في كل أمر يحزبهم، ومفزعهم في كل شأن، وهاديهم من كل حيرة؛ فإذا اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في شيء ردوه إليه عليه الصلاة والسلام فبين لهم وجه الحق فيه، وأوضح لهم سبيل الهداية، وأما الذين ينزل بهم من الأمور ما لا يستطيعون رده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 35 ] لبعدهم عن المدينة المنورة ، فكان يقع بينهم الاختلاف كاختلافهم في تفسير ما يعرفونه من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتطبيقه على ما نابهم من أحداث، وقد لا يجدون في ذلك نصا فتختلف اجتهاداتهم... هـؤلاء ذا عادوا إلى المدينة، والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه ما فهموه من النصوص التي بين أيديهم أو ما اجتهدوا فيه من القضايا، فإما أن يقرهم على ذلك فيصبح جزءا من سنته صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يبين لهم وجه الحق والصواب فيطمئنون لحكمه صلى الله عليه وسلم ، ويأخذون به، ويرتفع الخلاف، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
(أ ) ما أخرجه البخاري ومسلم ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ) فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، أي: ديار بني قريظة. وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يعنف واحدا منهم. ) [1] . وظاهر من هـذا الحديث الشريف أن الصحابة رضوان الله عليهم انقسموا إلى فريقين في موقفهم من أداء صلاة العصر: فريق أخذ بظاهر اللفظ (كما يقول المناطقة ) أو بما يسميه أصوليو الحنفية بـ (عبارة النص ) . وفريق استنبط من النص معنى خصصه به. [ ص: 36 ]
وتصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم للفريقين دليل على مشروعية كل من المذهبين.
فالمسلم إذن: له أن يأخذ بظاهر النص، وله أن يستنبط من المعاني ما يحتمله النص، ويمكن التدليل عليه، ولا لوم على من بذل جهده، وكان مؤهلا لهذا النوع من الجهد. فالفريق الثاني من الصحابة، رضوان الله عليهم، فهموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يأمرهم بالمبالغة في الإسراع، ولذلك اعتبروا أن أداءهم الصلاة قبل الوصول إلى بني قريظة لا ينافي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة في بني قريظة، ما دامت الصلاة لن تؤخرهم عن الوصول. ومن الطريف أن ابن القيم رحمه الله أورد اختلاف الفقهاء في تصويب أي من الفريقين، وبيان الأفضل من فعل كل منهما، فمن قائل: إن الأفضل فعل من صلى في الطريق فحاز قصب السبق في أداء الصلاة في وقتها وتلبية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ومن قائل: إن الأفضل فعل من أخرها ليصليها في بني قريظة... [2] .
قلت: وما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنف واحدا منهما، فكان على الفقهاء رحمهم الله أن يسعهم ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألا يخوضوا في أمر قد تولى عليه الصلاة والسلام ، حسمه والانتهاء منه. [ ص: 37 ]
(ب ) ومن أمثلته كذلك ما أخرجه أبو داود والحاكم من ( حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه ، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل [3] فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) [النساء: 29]. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا ) [4] .