الفصل الرابع
أسباب الإختلاف وتطوره
أسباب الاختلاف من عهد النبوة حتى عهد الفقهاء
إذا سلمنا أن الاختلاف في القضايا الفكرية - التي منها القضايا الفقهية - أمر طبيعي، لما فطر عليه الناس من تباين في عقولهم وأفهامهم ومداركهم، وجب أن نقر بأن الاختلاف في عهد النبوة والخلافة الراشدة بين عديد من الصحابة كان أمرا واقعا تشهد له جملة من الأحداث، وليس في نفيه ما يخدم هـذا الدين، كما أننا لا نرى في بيانه مساسا بمثالية هـذه الدعوة، وصدق نية أولئك الرجال الذين كانوا يختلفون، بل [ ص: 103 ] يمكن أن نقول: إن في ذكر هـذه الاختلافات بيانا لواقعية هـذا الدين، فهو يتعامل مع الناس على أنهم بشر، تتنازعهم عوامل مختلفة مما فطر الله تعالى خلقه عليه، ولكن الذي تطمئن إليه النفس المؤمنة أن ذلك الاختلاف لم ينشأ عن ضعف في العقيدة، أو شك في صدق ما يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كان تحري الحق والرغبة في إصابة قصد الشارع من الأحكام بغية جميع المختلفين.
ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مصدر تلك الأحكام لم يكن عمر الخلاف يمتد لأطول من الطريق المؤدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد رأينا من خلال الأحداث التي مرت أن أسباب الاختلاف في مجموعها، لم تكن تخرج عن تباين في فهم النص لأسباب لغوية أو اجتهادية، وذلك في تفسير ما بين أيديهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن هـذه الأسباب لتخفي وراءها أية نوايا تحاول إنماء بذرة الخلاف التي كان المنافقون يحرصون على تعهدها.
لذلك سرعان ما كانت هـذه الاختلافات تضمحل بلقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو الاحتكام إلى نص أدركه بعضهم وغاب عن الآخرين؛ لأن غاية ذي الفطرة السليمة نشدان الحق حيثما وجد.
من الطبيعي أن تنتقل بعض الأسباب الموضوعية للاختلاف من عصر لآخر حيث يصعب وضع حواجز تحصر خلفها أسباب الاختلاف في كل عصر، ولكن هـناك أمورا كانت تستجد على الساحة الإسلامية، نتجت عنها أسباب وعوامل تذكي روح الاختلاف. [ ص: 104 ]
فمنذ مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه تعرضت الأمصار الإسلامية لهزات عنيفة أفرزت بعض الأحداث التي أدخلت إلى دائرة الاختلاف أمورا كانت خارجها، ربما أدت إلى انطواء أهل كل بلد أو مصر على ما وصلهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الوضع والدس، كما أشرنا من قبل.
وظهرت مدرستا الكوفة والبصرة كبيئة خصبة لتفاعل الأفكار السياسية وتعددت الفرق المختلفة، كالخوارج والشيعة والمرجئة [1] ، وظهرت المعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل الأهواء والبدع.
وتعددت المناهج العقلية والفكرية بتعدد تلك الفرق، وأصبح لكل فرقة منطلقات وقواعد تنطلق منها في تعاملها مع نصوص الشارع، وفي تفسيرها للمصادر الشرعية، وفي مواقفها من القضايا المختلفة التي استجدت، وبدأت الحاجة تظهر إلى وضع الضوابط والقيود، وتحديد المناهج وطرق استنباط أحكام الوقائع من الوحي الإلهي، وتحديد ما يجوز الاختلاف فيه وما لا يجوز.
ولعل من فضل الله تعالى أن جعل الجانب الفقهي في دائرة ما يجوز [ ص: 105 ] فيه الاختلاف، وذلك لأن (الفقه ) عبارة عن معرفة الفقيه حكم الواقعة من دليل من الأدلة التفصيلية الجزئية التي نصبها الشارع للدلالة على أحكامه من آيات الكتاب، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد يصيب الفقيه حكم الشارع، أو يوافقه، وقد لا يوافق ذلك، ولكنه في الحالتين غير مطالب بأكثر من أن يبذل أقصى طاقته العقلية والذهنية للوصول إلى حكم، فإن لم يكن ما وصل إليه حكم الشارع فهو أقرب ما يكون إليه في حقيقته وغاياته وآثاره، ولذلك كان الاختلاف أمرا مشروعا وذلك لتوفر أمرين فيه:
الأول: أن لكل من المختلفين دليلا يصح الاحتجاج به، فما لم يكن له دليل يحتج به سقط، ولم يعتبر أصلا.
الثاني: ألا يؤدي الأخذ بالمذهب المخالف إلى محال أو باطل، فإن كان ذلك بطل منذ البداية، ولم يسع لأحد القول به بحال، وبهذين الأمرين يغير (الاختلاف ) (الخلاف ) .
فالاختلاف ما توافر فيه الشرطان المذكوران، وهو مظهر من مظاهر النظر
العقلي والاجتهاد، وأسبابه منهجية موضوعية في الغالب.
أما الخلاف فهو الذي يفقد الشرطين أو أحدهما، وهو مظهر من مظاهر
التشنج والهوى والعناد، وليس له من سبب يمت إلى الموضوعية. [ ص: 106 ]