المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هـادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) [آل عمران:102]، ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) [النساء:1]، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) [الأحزاب:70-71].
اللهم إنا نبرأ إليك من حولنا وقوتنا، ونلوذ بحولك وقوتك، سبحانك، لا حول ولا قوة إلا بك. اللهم إنا نعوذ بك من الخطأ والخطل، والخلل والزلل، وسيء القول والعمل. ونسألك سبحانك أن تعيننا على إخلاص القلب، وسلامة القصد، وأن تجعل عملنا وقولنا خالصا لوجهك، نقيا مقبولا، آمين.
ونصلي ونسلم على صفوتك من خلقك، وخاتم رسلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وصحبه الأبرار الطاهرين. [ ص: 31 ] وبعد:
لقد شغل أمر المستشرقين مساحة عريضة من الخريطة الفكرية لأمتنا، وكثرت البحوث المتعلقة بالاستشراق والمستشرقين، وتنوعت ما بين تعريف بهم، وتأريخ لحركتهم ورجالهم، وما بين ترجمة لأعمالهم وبحوثهم، وتمجيد لها وإشادة بها، وما بين رد عليهم، وتصويب لأخطائهم.
ولكن البحث الذي نتقدم به اليوم يختلف عن كل ذلك، حيث جعلنا كل هـمنا وكدنا عرض أعمال المستشرقين على ميزان المنهج العلمي، وقياسها بقواعده وأصوله؛ لنرى مدى وفائهم والتزامهم بهذه القواعد والأصول، لم نلتفت إلى تصحيح أخطاء، أو الرد على تزييف، أو تصويب تحريف، إلا بمقدار ما يكون لازما لبيان موضع الخلل في المنهج، وخيانته، وأن الصواب كان أمامه، ولكنه حاد عن المنهج، فبعد عنه، أو بالأحرى تعمد ترك المنهج؛ لكيلا يصل إلى صواب لا يريده.
ولقد التزمت في هـذا البحث أن يكون مؤيدا بالأدلة والبراهين الناطقة بما نقول، فلا نذكر أي لون من الخلل في المنهج، إلا ونضرب له مثالا من كتاباتهم، وأبحاثهم، واعتمدنا في ذلك على أعمال مستشرقين كبار، ممن عرف بالقدرة العلمية، بل واشتهر بالنزاهة والتجرد.
فنحن إذا لا نناقش جزئيات، ولا نصوب أخطاء -وإن جاء ذلك عرضا- فقد قام بذلك كثير من الكرام الكاتبين، والأساتذة الباحثين.
بل نحن نقول: كفى هـذا. ونردد مع الإمام الجليل ابن العربي في العواصم من القواصم: (لا نذهب الزمان في مماشاة الجهال، فإن ذلك أمر لا آخر له) . [ ص: 32 ] فإذا ثبت أن أعمال هـؤلاء المستشرقين لا يصح أن تسمى علما، ولا يمكن أن تسمى بحثا، ولا قيمة لها في ميزان المنهج العلمي، ولا ثقل لها في كفته، إذا ثبت هـذا فأي جدوى لمناقشتها، أو تصويبها؟ وكفى ما كان.
بل نحن نتطلع إلى إسقاط هـذه الأعمال، من قوائم المصادر والمراجع، للأبحاث العلمية الجادة، والأطروحات بالدراسات العليا.
كما نرفض منهجيا أن يعتمد الباحث على المصادر الثانوية، ونطالبه بالرجوع إلى المصادر والمراجع الأصيلة، فكذلك ينبغي أن نرفض اعتماد هـذه الأعمال الاستشراقية مصادر ومراجع، يتكئ الباحث على الحقائق التي يأخذها منها، ويبني عليها نتائجه.
وبدهي أننا لا نقول بعدم قراءة أعمال المستشرقين، فلم يدر هـذا بخلدنا، فليقرأ من شاء، ولكن نضعها موضعها، فلا نتخذها مرجعا ومصدرا، إذا ثبت ألا ثقة بما تنتهي إليه من نتائج، أو تصدره من أحكام. وبذلك ننفض أيدينا من هـذه القضية، ولا نقول مع الكرام القائلين بإنشاء الأقسام والمراكز بالجامعات لدراسة أعمال المستشرقين، (فنذهب الزمان في مماشاة الجهال) .
وإذا بدا هـذا لونا من التشدد، فدعونا نتساءل: لمن نصوب أعمال المستشرقين؟ ثم كم من الزمن يلزم لذلك؟ ثم كم مجلدا يمكن أن تكفى لذلك؟
إن المستشرقين لا يكتبون لنا، وإنما يكتبون للمثقف الغربي، فهل إذا [ ص: 33 ] قمنا بتصويب أعمالهم، ونشرناها في لغاتهم، سيقرأها المثقف الأوروبي، ويسمع لنا، ويأخذ عنا، ويترك بني قومه؟
أعتقد أن الأمر أوضح من أن يجاب عليه.
ثم إذا كانت أعمال المستشرقين تقدر بنحو ستين ألف بحث، فكيف نحاصر كل هـذا الطوفان؟
لقد غبرنا زمنا، وقضينا عمرا، وأعمال المستشرقين مثل جبل المغناطيس، تجذبنا إليها جذبا، وتأسرنا أسرا، وتجعلنا ندور في فلكها، وأعتقد أنه آن الأوان، وشب عمرو عن الطوق، فإذا أردنا أن نخاطب المثقف الغربي فعلينا أن ندرس أقرب السبل، وأنجع الوسائل للوصول إليه، وتلك هـي الغاية التي تستحق أن نحتشد لها، ونحكم تدبيرها.
والله الكريم نسأل أن يجعل عملنا وقولنا خالصا لوجهه الكريم، ودائما وأبدا نبرأ من حولنا وقوتنا، ونلوذ بحوله سبحانه وقوته، فلا حول ولا قوة إلا به جل علاه. وهو نعم المولى ونعم النصير.
الدكتور عبد العظيم محمود الديب [ ص: 34 ]