الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
د ـ التفسير بالإسقاط

ونعني بهذا: إسقاط الواقع المعاصر المعاش على الوقائع التاريخية الضاربة [ ص: 99 ] في أعماق التاريخ، فيفسرونها في ضوء خبراتهم ومشاعرهم الخاصة، وما يعرفونه من واقع حياتهم ومجتمعاتهم، فيتناولون بيعة أبي بكر يوم السقيفة ، وكأنهم يحللون انتخاب الرئاسة في أمريكا بألاعيبها وفضائحها الحزبية، ويفسرون خروج طلحة والزبير على علي رضي الله عنهم جميعا بأنه خوف على ثرواتهما التي جمعاها أثناء الفتوح؛ ومن غنائم الفرس والروم، وكأنهم ينظرون إلى الصراع بين شركات الصلب، أو شركات السلاح، ومؤسساتهم الرأسمالية الضخمة، التي تصارع؛ للتأثير على السلطة وعلى صناعة القرار، مع أن أول وأبسط قواعد تفسير النصوص وفهمها هـو المعرفة التامة لروح العصر، ولما يسمونه جو النص، ثم المعرفة بحياة قائل النص؛ نشأته، وثقافته، وحياته، وأعماله. هـذه المبادئ يتعلمها الشادون المبتدئون وفي الصفوف الأولى من التعليم المتوسط.

ولكن هـؤلاء المستشرقين يغضون الطرف عن قواعد المنهج، بل يدوسون قواعد المنهج ويمتهنونها.

فمن عرف تاريخ أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، وحياتهم، وكيف جاهدوا في الله بأموالهم وأنفسهم، وكيف كانت الآخرة أمام أعينهم، وكيف كانت حقارة الدنيا في نظرهم، كيف يستطيع أن يفسر ما دار يوم السقيفة ، على أنه اتفاق بين الثلاثة، على أن يعين عمر وأبو عبيدة أبا بكر ، على شرط أن يعهد بها أبو بكر لعمر، ثم يعهد بها عمر إلى أبي عبيدة. إن هـذه صورة منتزعة من واقع انتخاب عصرنا ومؤامراته، يستحيل على من عنده أدنى معرفة برجال صدر الإسلام، وبروح العصر، ومشاعر المسلمين يوم السقيفة، أن يقبل هـذا التفسير الذي يسقطونه من داخل أنفسهم على وقائع تاريخنا.

وكيف يقال: إن طلحة والزبير كانا يخشيان على أموالهما، وهما من هـما تضحية وبذلا في سبيل الله، إن هـذا الطراز من الرجال الذين كانوا [ ص: 100 ] لا يبالون أيقعون على الموت أم يقع الموت عليهم، كيف يخافون على عرض زائل؟ وقد ظهر كذب هـذا التفسير وزيفه، إذ ثبت بأصدق الروايات وأوثقها أن الزبير يوم مات لم يكن ماله يكفي لسداد ديونه [1] .

ومن طرائف التفسير بالإسقاط، أو الإسقاط في التفسير ما رأيناه عند المستشرق الإنجليزي منتجومري وات إذ فسر ما كان من خلوة الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء قبيل البعثة، بأنه كان هـروبا من حر مكة ، وابترادا في رأس الجبل؛ جبل حراء، حيث كان محمد صلى الله عليه وسلم فقيرا لا يستطيع السفر إلى الطائف، مثل أغنياء قريش [2] .

فهو هـنا أمام حدث قديم وقع في مكة، منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، ولكنه يفسره ويعلله، بروح عصره هـو، ويسقط عليه مشاعر واتجاهات، وعادات وقيم عصره الآن، يفسره وفي ذهنه رحلات المصطافين في عصرنا هـذا، وكيف يعدون لها، وينفقون في سبيلها، يفسر هـذا الحدث وفي ذهنه قمم الجبال المعشوشبة، التي يكسوها الجليد والبرد.

ولم يكلف نفسه، بل لم يستطع أن يدرك واقع المجتمع المكي آنذاك، بل واقع المناخ في مكة، والفرق بين درجة الحرارة في شعاب مكة ورأس جبل حراء، وهل حقا تنخفض الحرارة في رأس (حراء) عند الغار -وهو ما زال موجودا للآن- انخفاضا ملموسا يجعل محمدا صلى الله عليه وسلم يلجأ إليه؟ لم يذكر أحد قط ممن كتبوا عن مكة وأهلها آنذاك أن الفقراء كانوا يصطافون بالجبال، والأغنياء كانوا يصطافون بالطائف.

إن الرواية الصحيحة تقول: ( إنه صلى الله عليه وسلم حبب إليه الخلاء، فكان يذهب إلى غار حراء يتحنث فيه، ويظل به الليالي ذوات العدد، قبل أن يعود لأهله ليتزود لمثلها. ) [ ص: 101 ] فكيف يختلي بجبل هـو مصطاف الفقراء من أهل مكة، أم يا ترى كان محمد صلى الله عليه وسلم هـو الفقير الوحيد في مكة، فخلا له جبل حراء؟

أم تراه هـو الوحيد الذي أدرك السر الخطير، وهو برودة رأس الجبل؟ وضن به على غيره، فلم يشاركه في خلوته بالجبل أحد؟

أم يا ترى كان في مكة جبال بعدد فقرائها، لكل فقير -لا يقدر على السفر إلى الطائف- جبل؟ ثم أين تقع الطائف من مكة؟ ألم يقرأ أن محمدا صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الطائف ماشيا بعد أكثر من عشر سنوات؛ أي بعد أن كبرت سنه، حينما اشتد إيذاء قريش وعنادها؛ ليعرض الدعوة على شيوخ ثقيف؟

ثم كيف يستقيم له هـذا الفهم العجيب، والتفسير الغريب، (العجز المالي) مع حديثه في كتابه هـذا نفسه ص73-75 عن زواج محمد صلى الله عليه وسلم ، من خديجة و ثراء خديجة، فهل كانت خديجة رضي الله عنها عاجزة عن إعطاء محمد صلى الله عليه وسلم ناقة يسافر عليها إلى الطائف، مع نفقات الإقامة.

ثم لماذا لم يسأل نفسه عن السبب في عدم انتقال خديجة إلى الطائف لتصطاف بها مثل أثرياء مكة؟

إن السبب في هـذا التفسير العجيب الغريب هـو تصور واقع الصيف والمصطافين في عصرنا هـذا؛ نفقات ورحلات وسيارات وفنادق... إلخ.

ولو حاول أن يستشرف الواقع في عصر البعثة ويتمثل أحواله لأدرك أن الأمر على غير ما فسر وقدر. وإنما هـو كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها : (كانت الخلوة للتحنث) . [ ص: 102 ] ونجد هـذا (التفسير بالإسقاط) عند (لا مانس) حين يحدثنا عن مكة والمدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعلى حد تعبير (دينيه) (يفسد متعمدا الصورة التاريخية فيعطينا صورة أوربية حديثة، وكأنه يحدثنا عن باريس ولندن حينما يتحدث في جزيرة العرب عن الحملة الصحافية عن الماليين في بنك مكة. مليارات النقابة القرشية، الضريبة على الدخل، طبقة العمال، إبلاغ الرسالة إلى محل الإقامة، ديوان ذي الجلال، وزارة الله... إلى آخر هـذه التعبيرات الحديثة التي تفسد الصورة ولا تصور الحقيقة) . [3] .

التالي السابق


الخدمات العلمية