الخاتمة
ولنا أن نقول: إذا كان هـذا البحث قد انتهى إلى أن أعمال المستشرقين لا يمكن أن توصف بأنها أبحاث، ولا بأنها علمية، وإذا كنا قد آثرنا أن نضع القلم الآن فما زال أمامنا مجال للقول فسيح، فيما يتعلق بالاستشراق والمستشرقين؛ لنجيب على كثير من الأسئلة مثل:
- هـل هـناك مستشرقون منصفون، غير من هـداهم الله إلى الإسلام؟
- هـل يلام المستشرقون على ما قاموا به من أعمال، وما بذلوه من جهود في سبيل هـذه (الدراسات) و (الأبحاث) التي قدرت عددا بستين ألف؟
- ثم هـل للمستشرقين فضل على تراثنا، بما قاموا به من حفظ وصيانة ما استولوا عليه من مخطوطات، ثم ما بذلوه من جهد في فهرسته وتحقيقه ونشره؟
هـذه -وأمثالها- ما زالت مجالا فسيحا للقول والدرس، ومع أننا آثرنا أن نضع القلم الآن، فليس هـناك ما يمنع من أن نشير إشارة سريعة إلى أننا على رأي العلامة أحمد فارس الشدياق في أنه ليس في هـؤلاء المستشرقين من يصح أن يسمى عالما، أو باحثا، بله منصفا، فقد قال في كتابه (ذيل الفارياق) : إن هـؤلاء الأساتيذ (المستشرقين) لم يأخذوا العلم عن شيوخه، وإنما تطفلوا عليه تطفلا، وتوثبوا فيه توثبا، ومن تخرج فيه بشيء فإنما تخرج على القسس، ثم أدخل رأسه في أضغاث أحلام، أو أدخل أضغاث أحلام في [ ص: 125 ] رأسه، وتوهم أنه يعرف شيئا وهو يجهله، وكل منهم إذا درس في إحدى لغات الشرق أو ترجم شيئا منها تراه يخبط فيها خبط عشواء، فما اشتبه عليه منها رقعه من عنده بما شاء، وما كان بين الشبهة واليقين حدس فيه وخمن فرجح منه المرجوح، وفضل المفضول) [1] .
ثم نتبعه بقول شيخنا الجليل محمود شاكر مد الله في عمره: ( والاستشراق لا يذم لأنه فعل كل ذلك؛ لأنه بلا شك قد أدى ما عليه لبني جلدته أحسن أداء وأتمه، ونصر أهل دينه، وأخلص لهم كل الإخلاص، وكافح في سبيل هـدفه بكل سلاح، أجاد صقله، وتقويمه.
أما الذي هـو حقيق بالذم والمعابة فالعربي أو المسلم العاقل الذي يظن نفسه بصيرا، ثم لا يكاد عقله يدرك شيئا هـو أبين بيانا من البدائة المسلمة، ولا يكاد بصره يرى ما هـو أظهر ظهورا من الشمس الساطعة [2] .
ثم نضيف أيضا قول أستاذنا الجليل محمود شاكر للمخدوعين الذين يسرفون على أنفسهم وعلى أمتهم بتمجيد عمل المستشرقين في مجال التراث، حيث قال: (لا تصدق من يقول لك: إن الاستشراق قد خدم اللغة العربية وآدابها وتاريخها، وعلومها؛ لأنه نشر هـذه الكتب التي اختارها مطبوعة، فهذا وهم باطل.
كانوا لا يطبعون قط من أي كتاب نشروه أكثر من خمسمائة نسخة، ولم تزل [ ص: 126 ] هـذه سنتهم إلى يومنا هـذا؛ توزع على مراكز الاستشراق في أوروبة وأمريكا، وما فضل بعد ذلك -وهو قليل جدا كانت تسقط منه إلى بلاد العرب المسلمين النسخة والنسختان، والعشرة على الأكثر، لم يسعوا قط إلى تسويقها، بين ملايين العرب والمسلمين، كما يسوقون بضائعهم وتجارتهم وسائر ما ينتجون بين هـذه الملايين؛ طلبا لربح المال) [3] .
وأضيف إلى ذلك: إن عنايتهم بالتراث كانت -وما زالت- وستظل من باب: (اعرف عدوك) ، فهذه الكتب (التراثية) هـي الخرائط والصور لعقولنا وعواطفنا، ومشاعرنا، واتجاهاتنا، واهتماماتنا، وحبنا وبغضنا وغضبنا ورضانا، فهي المفاتيح التي عرفوا بها كيف يخططون لتدميرنا؛ ثقافيا، واجتماعيا، وفكريا، وعلميا، بعد ما حطمونا عسكريا، وحربيا، وسياسيا.
ومن أعجب العجب أن تجد أمة -مثل أمتنا- تشكر وتمجد، وتعظم أمر سارقي وثائقها، لمجرد أنهم احتفظوا بها، أو قدموا إليها صورة منها، وعهدي بالدول الواعية أنها تفضل حرق وثائقها من أن تقع في يد أعدائها.
ولا ننكر أننا استفدنا من أعمال المستشرقين في مجال التراث (التحقيق والنشر، والفهرسة) . فذلك أمر واضح للعيان لا ينكره إلا مكابر. ولكن هـذه الاستفادة عرضية، تبعية، تشبه تماما استفادة أهل الهند وأهل مصر الآن من المنشآت التي أقامها المستعمرون، فقد شقوا في الهند الطرق وأنشأوا السكك الحديدية؛ لنهب خامات الهند وثرواتها، وأقاموا في مصر القناطر، والسدود، وأصلحوا الترع، والقنوات؛ من أجل أن تزود مصانع في مانشستر ولانكشير بالقطن المصري، فهل يقتضي ذلك أن الهندي إذا ركب قطار السكة الحديد ذكر الاستعمار وشكره، وأن المصري إذا [ ص: 127 ]
استقى من الترع والقنوات، سبح بحمد (كرومر) ومجد عمله، والاستعمار الذي كان يمثله؟ إن هـذا لعمري عجيب غريب.
ولكنه الإفساد الثقافي، والتدمير الفكري الذي تعرضت له أمتنا، أعانها الله على أمرها، وألهمها رشدها، وأخذ بيدها، إنه وحده المستعان، وعليه التكلان، وإن نصره لقريب. هـو نعم المولى ونعم النصير. [ ص: 128 ]