حول تطور الدراسات الاستشراقية بعض بني جلدتنا حينما نضع أمامهم هـذه النصوص الناطقة بأهداف المستشرقين، الشاهدة على بعدهم عن العلم والبحث، ومجافاتهم روح (الأكاديمية) والمنهج، يقول: (ما لكم تتشبثون بهذه العبارات، وتقفون عند هـذه الأخبار ولا تتجاوزونها؟ إن ذلك كان في القرن التاسع عشر، وقبل القرن التاسع عشر، كان في أيام الاستعمار، وطغيان الاستعمار، كان في أيام الصراع المحتدم بين الشرق والغرب، أما منذ مطلع القرن العشرين، فقد تطورت الدراسات الاستشراقية، وصارت (علمية) (منهجية) تبحث عن العلم المجرد، لذات العلم والمعرفة، وانتهى عهد التهجم على الإسلام؛ نبيه، وقرآنه، ورجاله، وعقائده، وحضارته، لقد صارت الدراسات الاستشراقية آية في النزاهة، وقدوة في الالتزام بالمنهج العلمي، والإخلاص للبحث والتجرد للحقيقة. كذا يقولون.
وقد يكون هـذا الكلام صحيحا في بعضه؛ أعني أن أبحاث الاستشراق خلت من السب والشتم، والتقبيح، والتشنيع على الإسلام، وأهله، فذلك صحيح في جملته، ولكن ذلك لم يكن بسبب التزام الاستشراق بالمنهج العلمي، وقواعد البحث الأكاديمي، ولكن لسبب آخر، سنعرض له فيما بعد، أما المنهج العلمي الصحيح، والتجرد للبحث وخدمة الحقيقة فما زال [ ص: 44 ] -وسيظل- الاستشراق بعيدا عنها؛ لأسباب كثيرة بعضها راجع لطبيعة الاستشراق، وهدفه، ونشأته، وبعضها راجع لعجز طبعي فطري في هـؤلاء الأعاجم يحول بينهم وبين امتلاك وسائل البحث في العلوم الإسلامية وأدواته.
ونستطيع ببساطة ويسر أن نحيل هـؤلاء إلى ما عرضناه من شهادات المستشرقين وأقوالهم بألسنتهم، وهم من المعاصرين، في قرننا العشرين هـذا، بل منهم من عاش إلى قريب من أيامنا هـذه. وإن لم يكف ما تقدم فنضع أمام أعينهم ما كتبه الدكتور جلوور في كتابه: تقدم التبشير العالمي، الذي نشره سنة: 1960م، قال: (إن سيف محمد والقرآن أشد عدو، وأكبر معاند للحضارة والحرية والحق، ومن أخطر العوامل الهدامة التي اطلع عليها العالم إلى الآن) . وقال أيضا: (القرآن خليط عجيب من الحقائق والخرافات، ومن الشرائع والأساطير، كما هـو مزيج غريب للأغلاط التاريخية، والأوهام الفاسدة، وفوق ذلك هـو غامض جدا، لا يمكن أن يفهمه أحد إلا بتفسير خاص له) .
ثم ينتقد شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: (كان محمد صلى الله عليه وسلم حاكما مطلقا، وكان يعتقد أن من حق الملك على الشعب أن يتبع هـواه ويعمل ما يشاء، وكان مجبولا على هـذه الفكرة، فقد كان عازما على أن يقطع عنق كل من لا يوافقه في هـواه، أما جيشه العربي فكان يتعطش للتهديد والتغلب، وقد أرشدهم رسولهم أن يقتلوا كل من يرفض اتباعهم، ويبعد عن طريقهم) [1] . [ ص: 45 ]
ولعل تعبير المستشرق ليوبولد فايس الذي أسلم وتسمى باسم: (محمد أسد) عن أزمة الأوروبي تجاه الإسلام، وأزمة المستشرق بصفة خاصة هـو أوضح تعبير، وأدقه حيث جاء من واقع الخبرة، والممارسة العريضة العميقة لكتابات المستشرقين، قال: (لا تجد موقف الأوروبي تجاه الإسلام موقف كره في غير مبالاة فحسب، كما هـو الحال في موقفه من سائر الأديان والثقافات، بل هـو كره عميق الجذور، يقوم في الأكثر على صدود من التعصب الشديد، وهذا الكره ليس عقليا فحسب، ولكنه يصطبغ أيضا بصبغة عاطفية قوية... إن الأوروبي لا يحتفظ تجاه الإسلام بموقف عقلي متزن مبني على التفكير بل حالما يتجه إلى الإسلام يختل التوازن، ويأخذ الميل العاطفي بالتسرب، حتى إن أبرز المستشرقين جعلوا من أنفسهم فريسة التحزب، غير العلمي في كتاباتهم عن الإسلام.
ويظهر في جميع بحوثهم على الأكثر كما لو أن الإسلام لا يمكن أن يعالج على أنه موضوع بحث في البحث العلمي، بل على أنه متهم يقف أمام قضاته، إن بعض المستشرقين يمثلون دور المدعي العام، الذي يحاول إثبات الجريمة، وبعضهم يقوم مقام المحامي في الدفاع، فهو مع اقتناعه شخصيا بإجرام موكله، لا يستطيع أكثر من أن يطلب له مع شيء من الفتور اعتبار الأسباب المخففة) .
ثم يقول بعد ذلك مبينا أن الإسلام وحده دون الثقافات الأجنبية المختلفة وقفت منه الدراسات الغربية هـذا الموقف: (أما فيما يتعلق بالإسلام فإن الاحتقار التقليدي أخذ يتسلل في شكل تحزب غير معقول إلى بحوثهم العلمية، وبقي هـذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوروبا والعالم الإسلامي غير معقود فوقه بجسر، ثم أصبح احتقار الإسلام جزءا أساسيا من التفكير الأوروبي.
والواقع أن المستشرقين في الأعصر الحديثة كانوا مبشرين نصارى، يعملون في البلاد الإسلامية، وكانت الصورة المشوهة التي اصطنعوها عن تعاليم الإسلام وتاريخه مدبرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوروبيين من (الوثنيين) [ ص: 46 ] غير أن هـذا الالتواء العقلي قد استمر مع أن علوم الاستشراق قد تحررت من نفوذ التبشير، ولم يبق لعلوم الاستشراق هـذا عذر من حمية دينية جاهلية تسيء توجيهها، أما تحامل المستشرقين على الإسلام فغريزة موروثة وخاصة طبيعية، تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبية، بكل ما لها من ذيول في عقول الأوروبيين الأولين) [2] .
هكذا أصبح تحامل المستشرقين على الإسلام موروثة، وخاصة طبيعية، تزول المؤثرات والدوافع والأسباب ولا تزول هـذه الغريزة، فكيف يقال: إن الدراسات الاستشراقية قد تطورت؟