إذا كان من شروط المنهج البراءة من الأهواء، كما ذكرنا آنفا، فإن من شروطه أيضا إدراك اللغة والإحاطة بأسرارها؛ أسرار اللغة التي يبحث الباحث في آدابها وعلومها، وفنونها، وكذلك إدراك (الثقافة) والإحاطة بسرها، (ثقافة) الأمة التي يريد أن يبحث في تاريخها، وعقائدها، وعمرانها، وحضارتها، وعقائدها، ودينها.
وذلك لازم للمستشرق وغير المستشرق، هـذه الشروط لا يختلف في شأنها أحد قط في كل ثقافة، وفي كل أمة، فإذا كان لا يعد كاتبا أو باحثا أو عالما من أبناء اللغة، وأبناء الثقافة أنفسهم إلا من اجتمعت له هـذه الشروط، فإذا عري منها لم يكن أهلا للنزول في ميدان (المنهج) فإذا فعل، فهو متكلم لا أكثر، ثم لا يلتفت إلى قوله، ولا يعتد به عند أهل البحث والعلم والكتابة.
والمستشرق فتى أعجمي ناشئ، في لسان أمته وتعليم بلاده، ومغروس في آدابها وثقافتها، ثم يشدو طرفا من علوم العربية وآدابها، يأخذها من أعجمي مثله، ثم يخرج على الناس بعد ذلك (مستشرقا) ، يفتي في اللسان العربي، والتاريخ العربي... غاية ما يمكن أن يحوزه (مستشرق) في [ ص: 72 ] عشرين أو ثلاثين سنة أن يكون عارفا معرفة ما بهذه (اللغة) ، وأحسن أحواله عندئذ أن يكون بمنزلة طالب عربي، في الرابعة عشرة من عمره، بل هـو أقل منه على الأرجح؛ أي: هـو في طبقة العوام الذين لا يعتد بقولهم أحد في ميدان (المنهج) . على أن اللغة نفسها هـي وعاء (الثقافة) فهما متداخلتان، فمحال أن يكون محيطا أيضا بثقافتها إحاطة تؤهله للتمكن من (اللغة) ، فمن أين يكون (المستشرق) مؤهلا لنزول هـذا الميدان؟
وإذا كان أمر (اللغة) شديدا لا يسمح بدخول المستشرق تحت هـذا الشرط اللازم للقلة التي تنزل ميدان (المنهج) و (ما قبل المنهج) ، فإن (شرط الثقافة أشد وأعتى؛ لأن الثقافة سر من الأسرار الملثمة في كل أمة من الأمم، وفي كل جيل من البشر، وهي في أصلها الراسخ البعيد الغور معارف كثيرة لا تحصى، متنوعة أبلغ التنوع، لا يكاد يحاط بها، مطلوبة في كل مجتمع إنساني للإيمان بها أولا من طريق العقل والقلب، ثم للعمل بها؛ حتى تذوب في بنيان الإنسان، وتجري منه مجرى الدم، لا يكاد يحس به، ثم للانتماء إليها بعقله وقلبه؛ انتماء يحفظه ويحفظها من التفكك والانهيار، وهذه القيود الثلاثة: (الإيمان) و (العمل) و (الانتماء) . هـي أعمدة (الثقافة) وأركانها، التي لا يكون لها وجود ظاهر محقق إلا بها، وإلا انتقض بنيان (الثقافة) وصارت مجرد معلومات ومعارف وأقوال مطروحة في الطريق، متفككة لا يجمع بينها جامع، ولا يقوم لها تماسك، ولا ترابط ولا تشابك.
وبديهي -بل هـو فوق البديهي- أن شرط (الثقافة) بقيوده الثلاثة ممتنع على (المستشرق) كل الامتناع، بل هـو أدخل في باب الاستحالة من اجتماع الماء والنار في إناء واحد، كما يقول أبو الحسن التهامي الشاعر:
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
وذلك لأن (الثقافة) و (اللغة) متداخلتان تداخلا لا انفكاك له، ويترافدان ويتلاقحان بأسلوب خفي غامض كثير المداخل والمخارج والمسارب، ويمتزجان امتزاجا واحدا غير قابل للفصل في كل جيل من البشر، وفي كل أمة من [ ص: 73 ] الأمم. فأنى للمستشرق أن يحوز ما لا يحوزه إلا من ولد في بحبوبة اللغة وثقافتها منذ كان في المهد صبيا) [1] .وهذا كلام مبين غاية الإبانة، واضح تمام الوضوح، لا تحتاج معه إلى دليل، ومع ذلك أسوق لك من كلام أحد المستشرقين وكبار دهاقينهم ما يؤكد هـذا؛ كتب شيخ المستشرقين الروس وأقدرهم بإطلاق ( كراتشوفسكي ) إلى شقيقته يقول لها: (إن اللغة العربية تزداد صعوبة، كلما ازداد المرء دراسة لها) . أرجع إلى المقدمة التي كتبتها زوجته لكتابه: (مع المخطوطات العربية) ، ترجمة: الدكتور محمد منير مرسي.
قلت: ما باللغة العربية من صعوبة؟ وكيف تزداد صعوبتها مع الأيام كلما ازداد دراسة لها؟ لكنه العجز الفطري والعجمة الموروثة، فأني يهرب منها (كراتشوفسكي) وأضرابه.
وإن كنت بعد في شك من أمر عجز المستشرق عن استكناه سر اللغة، وإدراك كنه الثقافة، فسأضع بين يديك نماذج لما وقعوا فيه من أوهام غليظة [2] ؛ نتيجة لهذا العجز المهين، فمنها: (شرح كرترمير (الأحداث) بالغوغاء. وتفسير كازانوفا لفظ (أمي) بشعبي، ومن ذلك ما وقع فيه المستشرق الألماني (براجستراسر) في تحقيق كتاب مختصر في شواذ القراءات لابن خالويه، حيث صحف كلمة أبي عمرو بن العلاء: (فقد تربع في لحنه) وجعلها: (فقد تربع في الجنة) . مع أن المقام مقام ذم) . [3] .
وإذا كانت هـذه الأخطاء لا يترتب عليها كبير خلل في المعنى، أو قضايا [ ص: 74 ] علمية، فهناك ما يترتب عليه فساد في المعنى، وأحكام شرعية، فمن ذلك ما قاله (م. وات) من تفسير الغض من البصر بأنه التواضع، حيث قال: (وقد نزلت آيات أخرى تدعو المؤمنات إلى التواضع) ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) (النور:31) . [4] .
هكذا يرى أن هـذه الآية تدعو إلى التواضع، ولسنا ندري من أين جاءه هـذا المعنى؛ مع أن السياق يشير إلى أن الأمر بغض النظر هـنا هـو عدم النظر إلى ما لا يحل نظره من الأجنبي، ولا علاقة لهذا بالتواضع.
ونموذج آخر للمستشرق فان فلوتن وهو يعتبر أحد المستشرقين المعنيين بالتاريخ الإسلامي، المتخصصين في فترة الأمويين والعباسيين، وتستطيع أن تجد اسمه يتردد في كثير من الكتب الجامعية مرجعا من مراجعهم يباهون به، ويفتخرون بالاعتماد عليه، وهو يغريهم بما ينسبه إلى الطبري، والبلاذري، واليعقوبي، والواقدي... ونحوهم، فيخيل للباحثين والدارسين أنه (وثق) كل أخباره، وأتى بها من منابعها، فيعجبون به، ويطمئنون إليه.
السـيطرة العربيـة
لفلوتن كتاب بهذا الاسم، ونظرا لأهميته في مجال التاريخ حظي بعناية من رجال التاريخ عندنا، فترجمه إلى اللغة العربية سنة 1934م: الدكتور حسن إبراهيم حسن، ومحمد زكي إبراهيم، وطبعت هـذه الترجمة طبعتان، ثم [ ص: 75 ] ترجمه سنة 1980م مرة ثانية: الدكتور إبراهيم بيضون. وفلوتن متخصص في تاريخ هـذه الفترة حيث كانت أطروحته للدكتوراة في نفس الموضوع ودراسته ومقالاته وأبحاثه تتجه كلها هـذه الوجهة.
ومن هـنا كان لكلامه وزن وقيمة، وكان (لتحريفه) للمصادر، (وخيانته) للمنهج خطر عظيم، وكان هـذا منه جرما أي جرم.
ونحن نلتزم بهدفنا هـنا فلا يعنينا ما في الكتاب من تهجم على الإسلام والمسلمين، الذي لا يعدو أن يكون سبا وشتما (بأسلوب أكاديمي) ، وإنما يعنينا هـنا جريمته في حق تراث أمتنا، وكيف حرف المصادر والمراجع وزيفها. وإليك هـذا المثال:
جاء في ص66: (ولقد أصابت الأسر المرموقة في الكوفة ثراء فاحشا كان مصدره (المغانم) والأعطيات السنوية، فكان الكوفي إذا ما ذهب إلى الحرب يصطحب معه أكثر من ألف من الجمال، عليها متاعه وخدمه) . ثم نسب ذلك إلى الطبري، 2/8106، س8.
وعلى البديهة نرفض أن يكون هـذا الكلام في الطبري ، فنحن نعرف الطبري رضي الله عنه إماما عالما، مؤرخا محدثا فقيها، أو على الأقل (عاقلا، يدري ماذا يقول) . فكيف يذهب الجندي المقاتل إلى الميدان ومعه أكثر من ألف من الجمال، تحمل متاعه وخدمه؟ كيف يقاتل ومعه هـذه الحاشية؟ وما يصنع بحمل ألف جمل من المتاع في الميدان؟ وإذا فرضنا أن الجيش كان عشرة آلاف مقاتل -وهذا تقدير متواضع- فكم عدد الجمال التي تحمل متاعهم؟ أليست أكثر من عشرة ملايين من الجمال؟ كيف يتحرك هـذا الجيش؟ وأية طرق تسعهم وأية مياه تكفيهم؟ وأية مراع تطعمهم؟ وإذا سقط من الجيش بضع مئات أو آلاف قتلى في الميدان، فأين تذهب الملايين من الجمال التي تحمل أمتعتهم. [ ص: 76 ] لو قرأ أي عاقل هـذا الخبر في أصح كتاب لاتهم صاحبه، أو على الأقل نسبه إلى الخطأ والوهم، ورفض أن يحكي هـذا الكلام أو ينقله.
ولكن المستشرق العظيم في غمرة اجتهاده لإثبات أن فتوحات المسلمين كانت انتهابا لخيرات وثروات البلاد التي فتحوها، راح يجمع الأدلة من هـنا وهناك ويلويها ليا، ويزيفها تزيفا، إلا أننا ما كنا نتوقع أن يخرج بتزييفه إلى حد اختراع هـذه الخرافة، التي لا شك أنه لم ينتبه إليها، فقد شهدت عليه لا له.
وهل لذلك أصل في الطبـري؟
إن عبارة الطبري تقول على لسان قيس بن الهيثم أحد أصحاب مصعب بن الزبير قبيل التحامه مع جيش عبد الملك بن مروان ، يرغب أهل العراق في القتال، ويبين لهم حسن معاملة ابن الزبير لهم، ورفعه لمنزلتهم ومكانتهم: (والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح إن أرسله في حاجة، ولقد رأيتنا في الصوائف، وأحدنا على ألف بعير)
فالقائل هـنا يريد أن يوازن لأهل العراق بين معاملة خليفة الشام لأصحابه فالسيد منهم يقف بالباب، ويعتدها تكريما من الخليفة لو أرسله في حاجته، وبين إكرام حكامهم الزبيريين لهم، فالواحد منهم على ألف بعير، ومعنى: على ألف بعير؛ أي: أمير ألف، وكان هـذا أكبر لقب في الجيش، بعد القائد العام؛ أي أنهم في كنف الزبيريين كلهم أمراء [5] . [ ص: 77 ]