ز - التحريف والتزييف والادعاء
لقد حاولت أن أجد اسما لهذه الآفة المنهجية التي سنعرضها فلم أجد غير هـذه الصفات، فحينما يحذف الباحث كلمة من العبارة محل الاستشهاد، أو يزيد كلمة أو يغير كلمة، أو ينفي كاذبا وجود نص من النصوص التي استدل بها غيره، حينما يفعل ذلك بماذا نصفه؟ أو بماذا نسمي هـذا الخلل أو بالأحرى الفساد المنهجي؟ أرجو أن نجد له اسما يعبر عن حقيقته. وما علي الآن إلا أن أضع النماذج لهذه الشناعات:
يحاول بعض المستشرقين إنكار عالمية الرسالة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا للناس كافة، وفي سبيل ذلك يجمعون من الأدلة ما يركبون في سبيله كل صعب وذلول، ولكن الذي يتصل بموضوعنا هـنا أنهم ينكرون [ ص: 114 ] رسائل النبي صلى الله عليه وسلم ورسله إلى ملوك العرب والعجم، وفي سبيل هـذا الإنكار يتصدى ( كايتاني ) لخبر الرسول والرسائل في سيرة ابن هـشام، فيشكك فيه، مدعيا أن ابن هـشام لم يورد لابن إسحاق مصدره الرئيسي خبرا عن الرسائل، واعتبر كايتاني ذلك سكوتا من ابن إسحاق وبالتالي إضعافا للخبر [1] .
والسيرة النبوية لابن هـشام مطبوعة، وبأيدي الناس، وفي وسعهم أن ينظروا فيها ليجدوا أن ابن هـشام أورد خبر الرسائل بروايتين؛ إحداهما لابن هـشام بسنده عن أبي بكر الهذلي ، والثانية لابن إسحاق بسنده عن يزيد بن أبي حبيب المصري [2] .
وما أظن إنسانا عاقلا يفعل هـذا الذي فعله (كايتاني) وأمثاله؛ لأن الذي يخفي شيئا بهذا الوضوح لا يمكن أن يعد بين العقلاء.
ولكن عذرهم أنهم يكتبون للمثقف الأوروبي -كما أشرنا آنفا- وهو غير مستطيع أن يتتبع هـذه المراجع والمصادر، بل هـو غير مريد أيضا؛ لأن هـؤلاء موضع ثقته، وما كانوا يعلمون أن ناسا منا سيقرءون لهم، ويطلعون على هـذه الخيانات المنهجية.
ونعود إلى ( ول. ديورانت ) لنرى عنده مثالا آخر في موسوعته: (قصة الحضارة) ، التي أشرنا إليها آنفا، يقول وهو يتحدث عن الثراء الذي أصابه المسلمون بسبب الفتوح: (وكان للزبير بيوت في عدة مدن مختلفة، وكان يمتلك ألف جواد وعشرة آلاف عبد) أ. هـ. بنصه. [ ص: 115 ] وهذا الخبر بهذه الصورة وبهذا الإيجاز يجمع ألوانا وأفانين من التحريف، ففيه زيادة، وفيه نقص، وفيه تغيير وتبديل، وبيان ذلك: إن الخبر ورد في المصادر المعروفة والمشهورة هـكذا: (كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه خراجهم كل يوم، فما يدخل إلى بيته منها درهما واحدا، يتصدق بذلك جميعه) .
هكذا ورد الخبر في:
1 - الإصابة: لابن حجر العسقلاني، 1/546.
2 - أسد الغابة: لابن الأثير، 2/198.
3 - البداية والنهاية: لابن كثير، 7/251.
4 - صفة الصفوة: لابن الجوزي، 1/346.
5 - الاستيعاب: لابن عبد البر، (بهامش الإصابة) ، 1/583.
وبعض هـذه المراجع من منشورات المستشرقين؛ أعني أن هـذا الخبر بهذه الصبغة كان متاحا له وبين يديه، (وهم يزعمون، ويزعم تلاميذهم أنهم يستقصون المراجع ولا يخطون حرفا إلا بعد جمع كل ما يتصل بموضوعهم) ، ولكنه كما ترى ارتكب التحريفات الثلاثة الآتية:
1 - زيادة ألف جواد من عنده، فقد أقحمها في الخبر، ولا وجود لها فيه أصلا.
2 - نقص الجزء الأخير من الخبر عن تصدق الزبير بخراج
هؤلاء المماليك.
3 - زيادة الألف مملوك إلى عشرة آلاف.
وهكذا تكون (الأمانة العلمية) و (النزاهة) و (الحيدة) و (التجرد) و (المنهج) إلى آخر هـذا الركام من الأحجار التي يلقمونها لمن يريد أن ينظر في عمل المستشرقين. [ ص: 116 ] وهاك نموذج آخر للتحريف وخيانة المنهج؛ وهو ما قاله هـذا المستشرق عن هـارون الرشيد ، ذلك الخليفة العظيم، وعلاقته بالبرامكة، قال: (وكان هـارون يحب جعفرا حبا أطلق ألسنة السوء في علاقتهما الشخصية، ويقال: إن الخليفة أمر بأن تصنع له جبة ذات طوقين، يلبسها هـو وجعفر معا، فيبدوان كأنهما رأسان فوق جسم واحد، ولعلهما كانا في هـذا الثوب يمثلان حياة بغداد الليلية) [3] . كذا.
انظر: مؤرخ الحضارة، وعملاق الفكر، وربيب الأكاديمية، وسادن العلم، وأستاذ البحث والمنهج ينكر الحدث الثابت والخبر المتفق عليه، الذي تردد في كل الكتب تقريبا، (عن دس اليهود السم للرسول صلى الله عليه وسلم ) . ويضيف ويغير في خبر ثروة الزبير رضي الله عنه ، ويأتي هـنا بخبر (لقيط) لا يدرى له أصل فيحتفي به أيما احتفاء، بل يبني عليه من عنده، فيتخذ منه مناسبة ليطعن بغداد دار السلام، عاصمة الدنيا كلها في ذلك الوقت، فيقول: (ولعلهما كانا في هـذا الثوب يمثلان حياة بغداد الليلية) . هـكذا يقذف المجتمع كله بهذه الفرية، ولنا على هـذا الكلام ملاحظتان.
الملاحظة الأولى: أن هـذا الخبر على فرض صحته كان الأولى به أن يعف عن ذكره، فلا (يلوث) به كتابه، ولا يؤذي به حياء قارئه، فهذا شأن العلماء والباحثين، لا سيما وأن الخبر في سياقه مقحم لا قيمة له، فإثبات قوة الصلة بين هـارون الرشيد والبرامكة لا تحتاج إلى مثل هـذا الفحش، الذي يعف [ ص: 117 ] عنه عامة الناس، بله كبار العلماء، (آه متى يعود لأمتنا مكانها حتى تقيم حدود الله، وتجلد هـؤلاء القذفة) .
الملاحظة الثانية: إن هـؤلاء المستشرقين دائما يدعون إلى العقل، وتحكيم العقل في الخبر مهما كانت صحة سنده، والسؤال للمستشرق العملاق: هـل يقبل عقل عاقل (أي عاقل) بله عقل متحضر، بله عقل (مؤلف عالمي) ، هـل يقبل العقل أن يمشي رجلان في ثوب واحد؟ وكيف؟ وبأي سعة يكون هـذا الثوب؟ وأيهما يمشي أولا؟ وأيهما يمشي ثانيا؟ أم كان هـناك إيقاع موسيقي يضبط حركتهما؟
وإذا تركنا هـذا الإمكان (العملي) ، فهل يقبل العقل أن حاكما في مثل منزلة هـارون الرشيد كان فارغا لهذا العبث، بل لهذا الفساد؟ وهل يعقل أن من يصل إلى هـذا الحد من (السقوط) يمكن أن يكون صاحب هـذا التاريخ الذي زحم الدنيا؛ من الغزوات والانتصارات والسفارات، والبناء والتعمير، وقيادة (الدنيا كلها) في طريق الحضارة والنور؟ هـذه الخطوات الفساح التي تمت في عهد الرشيد ، هـل يقبل عقل عاقل أن هـارون الرشيد الذي كان يقود الجيوش بنفسه، ويقضي الشهور تلو الشهور في ملابس الميدان، هـذا الذي أذل أباطرة الروم، ودفع عن ثغور المسلمين دسائسهم، ومؤامراتهم، حتى مات مجاهدا ودفن هـناك في (طوس) على أطراف دولته، بعيدا عن عاصمته (وقصره) مسيرة أيام، هـل يعقل عاقل أن هـذا المجاهد يصل إلى هـذا المنحدر من السقوط؟ إلا في عقل هـؤلاء المستشرقين.
بل إن جعفر البرمكي هـذا كان قائدا محنكا، ولا شك أن مؤرخ الحضارة قرأ عن أعماله الحربية العظيمة، وأن هـارون الرشيد كان يرمي به في أخطر المآزق، ويلجأ إليه في أشق المضايق، فطالما قمع الفتنة، وردع العدوان، وسد الثغور، وحمى الحصون، وجال في أرض العدو وصال.
أفمثل هـذين العظيمين الطاهرين المجاهدين، يكونان فارغين لما يرمز إليه [ ص: 118 ] بهمزه ولمزه، ذلك المؤلف العالمي (الهمزة واللمزة) [4] .