ط ـ الاختلاق والتمويه وهذه آفة الآفات أن يشير الباحث إلى مصادر استقى منها، ومراجع رجع إليها، ويعنيها بالجزء والصفحة، مختلقا ذلك اختلاقا، بدون أن يكون لهذا الادعاء أدنى أصل، ومع أن هـذا ينظر إليه على أنه أبشع من كل ما سبقه مما أشرنا إليه من آفات، إلا أننا نراه مع قبحه وفجاجته أقل خطرا من حيث تأثيره الفكر، فإنه سلاح مكشوف، ومكر مفضوح، وبوسع كل قارئ مثقف أن يتناول المرجع أو المصدر الذي يشير إليه، فيكشف له خبؤه ويفتضح عواره، وتسقط قيمته، ولكن الخطر يكمن في الآفات الأخرى، التي يحكمون إخفاءها، ولا يدركها ويكشف سرها إلا من كان على علم بأساليب هـؤلاء، وتمويهاتهم.
ولقد رأينا من المستشرقين من يأتي بالنص من المصدر أو المرجع فيضيف [ ص: 120 ] إليه حرفا، أو يحذف منه حرفا، أو يبدل منه لفظا، فإذا المعنى قد استحال إلى شيء آخر، وأصبح ناطقا بما يريد أن ينطقه به المستشرق الباحث [1] ، أما الاختلاق والادعاء والافتراء فتلك آفة الآفات.
يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي وهو يترجم للمستشرق الفرنسي لا مانس : (وأبشع ما فعله لا مانس، خصوصا في كتابه: فاطمة وبنات محمد. هـو أنه كان يشير في الهوامش إلى مراجع بصفحاتها، وقد راجعت معظم هـذه الإشارات في الكتب التي أحال إليها، فوجدت أنه إما أن يشير إلى مواضع غير موجودة إطلاقا في هـذه الكتب، أو يفهم النص فهما ملتويا خبيثا، أو يستخرج إلزامات بتعسف شديد، يدل على فساد الذهن، وخبث النية، ولهذا ينبغي ألا يعتمد القارئ على إشاراته إلى مراجع، فإن معظمها تمويه، وكذب وتعسف في فهم النصوص) [2] .
وتهمنا هـنا شهادة الدكتور عبد الرحمن بدوي، فالرجل من أبناء الثقافة الغربية وروداها، وكان على اتصال بكثير من المستشرقين، وحسن الظن بهم، فأن ينكشف له هـذا الخبث حتى يفزعه ويحذر منه فهذا وحده أبلغ دليل.
وقد عقب الدكتور عبد الرحمن بدوي قائلا: (ولا أعرف باحثا من بين المستشرقين المحدثين قد بلغ هـذه المرتبة من التضليل وفساد النية ) .
فإن كان يقصد أن هـذه الصفات اختص بها (لا مانس) فنقول: لا. وأما إن كان يقصد أنهم جميعا على هـذه الصفات، إلا أن (لامانس) فاقهم، وبلغ [ ص: 121 ] حدا لم يبلغه غيره من المحدثين، فنقول له: نعم. وهذه هـي الحقيقة؛ أعنى أنهم كلهم (لا مانس) ، بل في الواقع أخطر من (لا مانس) ؛ لأن (لا مانس) غلب حقده كياسته، وبفعله هـذا كشف عن نفسه وافتضح أمره، فجتنبت سمومه؛ حيث جاءت لازعة الطعم فاقعة اللون، فائحة، فقدت تأثيرها.
وهو بهذا خالف (استراتيجية) قبيلة وقومه، فهم يعلمون أن حرب الكلمة والفكرة ليست كحرب السلاح والدم، في الثانية كلما تكاثفت الضربات، وتوالت الطعنات وتقدمت الجيوش تحرق وتدمر، كلما كان النصر أسرع وأقرب.
على حين في حرب الكلمة والفكر (كلما كانت الضربة) أخف وأرق وألطف، وكلما تباعدت الضربات، وكلما كانت الطعنات مغلفة بغلاف ناعم، بالغ النعومة، ومقنعة بقناع كاف ومتلفعة بطيلسان (البحث) ومزدانة بشارة (الأكاديمية) ، كلما كان كذلك كان أوقع وأوجع، وكان الأثر أخطر وأعمق.
وقد عبر عن هـذه الاستراتيجية العلامة أبو الحسن الندوي -مد الله في عمره- قائلا: (إنهم في أغلب الأحيان يذكرون عيبا واحدا، ويجودون لتمكينه في النفوس؛ بذكر عشرة محاسن، ليست لها أهمية كبيرة، وذلك كي يقف القارئ خاشعا أمام سعة قلوبهم وسماحتهم، ويسيغ ذلك العيب الواحد الذي يكفي لطمس جميع المحاسن.
وكثير من هـؤلاء المستشرقين يدسون في كتاباتهم مقدارا خاصا من السم، ويحترسون في ذلك فلا يزيدون على النسبة المعينة لديهم؛ حتى لا يستوحش القارئ، ولا يثير ذلك فيه الحذر، ولا يضعف ثقته بنزاهة المؤلف.
إن كتابات هـؤلاء أشد خطرا على القارئ من كتابات المؤلفين الذين يكاشفون بالعداء، ويشحنون كتبهم بالكذب والافتراء، ويصعب على رجل [ ص: 122 ] متوسط في عقليته أن يخرج منها، أو ينتهي من قراءتها، دون الخضوع لها [3] .
ومن هـنا نجد هـذه الآفة (التمويه والخداع) عند مستشرقين آخرين غير (لا مانس) ولكن (بمقدار) ، ومن أجل هـذا لم يفتضح أمرهم، ولم ينكشف سترهم، ولم يشع عنهم ذلك.
ومثاله ما رأيناه عند (فان فلوتن) وأشرنا إليه من قبل، من إحالته إلى (الطبري) وإلى (البلاذري) ولم نجد ما أحال إليه.
ومن ذلك أيضا:
ما نجده عند ( مونتجومري وات ) حينما يتحدث عن نظام الزواج في الإسلام، فيقول فيما قال: (ونعلم من الأخبار أن محمدا دافع عن ( الشغار ) ؛ وهو أن يتبادل رجلان، أو جماعتان من الرجال بدون مهر بناتهم وأخواتهم من أجل الزواج) [4] .
ثم يشير في الهامش مسندا ذلك إلى البخاري ، كتاب: النكاح، مما يوحي بأنه اعتمد في تقرير هـذا الحكم -دفاع محمد صلى الله عليه وسلم عن الشغار- إلى البخاري، موهما القارئ أنه رجع إلى البخاري واستند في ذلك إليه.
والطالب الشادي والمسلم العادي سيدرك لأول وهلة كذب (مونتجومري وات) في هـذا الكلام، فالجميع يعرفون تحريم نكاح الشغار شرعا.
ويرجوعنا إلى البخاري (كتاب النكاح) ، ورقم الباب الذي عينه: (67) ، لم تجد شيئا عن (الشغار) ، وإنما هـذا الباب من أبواب كتاب النكاح بعنوان: (باب الوليمة حق) ، وفيه حديث واحد، عن وليمة عرس النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها . [ ص: 123 ] أما الشغار فهو الباب رقم: 28، من أبواب كتاب النكاح في البخاري، وليس رقم: 67، كما زعم (وات) .
وإذا تجاوزنا هـذا التضليل، وأحسنا الظن، واعتبرناه خطأ مطبعيا، أو سبق قلم، فكيف نتصرف في الموضوع؟ أعني: كيف نفسر استدلاله بالبخاري على ما ادعاه من (أن محمد صلى الله عليه وسلم ) دافع عن الشغار، (مع أن الذي في باب الشغار بالبخاري حديث واحد، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، ونصه: ( نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار؛ والشغار : أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق ) . انتهي بنصه.
ومن العجيب أن يرجع (وات) إلى معجم (لين) ويحيلنا إليه؛ لتفسير (شغار) مع أن تفسيره وارد في البخاري. وهذه أيضا من عجائب المنهج أن يرجع في تفسير اللفظ العربي إلى معجم (لين) المستشرق الأعجمي، مع أن أمامه تفسير ابن عمر ، لا تفسير (لين) . نعم، لا مانع من أن يرجع إلى معجم (لين) لكن عندما لا يكون بين عينيه المعنى الأصلي في لغته الأم، ناهيك بوروده عمن تؤخذ منه اللغة، ويؤخذ منه الفقه؛ مثل ابن عمر، فما بالك إذا أخذنا بقول من رفع هـذا التفسير إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم .
ولكن المنهجية المدعاة ظن أنه يدعمها برجوعه إلى معجم لغوي بجانب البخاري، ولله في خلقه شئون.
ويقيني أن المستشرق حينما يفعل ذلك إنما يعتقد أن من يقرأ له من المثقفين الأوروبيين لن يفكر في الرجوع إلى المصدر، ولا هـو بقادر أن يراجعه إذا أراد؛ لأنه عادة ليس من القارئين بالعربية، القادرين على مراجعة مصادرها وأمهات كتبها.
وهو أيضا واثق من أن (الأساتذة الكبار) من تلاميذهم (المدبلجين) الذين [ ص: 124 ] ألقوا إليهم مقاليدهم، لن يرد بخاطرهم أن يراجعوا عمل (سادتهم) بل هـو على يقين من أنهم أعجز من أن يراجعوا إلى المصادر العربية الأصلية، وحسبهم أن المستشرقين (مشكورين) قاموا عنهم بهذا الدور وكفوهم مؤنته، وتحملوا عنهم العناء.