الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح

الدكتور / ماجد عرسان الكيلاني

2- الخبرات الكونية والاجتماعية والدينية

لعله من المناسب أن تنقسم الخبرة من حيث ميادينها الى أقسام ثلاثة: خبرات كونية، وخبرات اجتماعية، وخبرات دينية، وإن كانت الاجتماعية والدينية تمتزجان الى درجة تجعل منهما قسما واحدا، وفيما يلي تفصيل لكل قسم من الأقسام الثلاثة:

أ- الخبرات الكونية

العلاقة الجارية بين الإنسان، وبين الكون، علاقة متبادلة وفاعلة ومستمرة. والذين يتفاعلون مع عناصر الكون بوعي وكفاءة، يفرزون خبرات هـائلة تترك أثرها العميق في مسيرة الحياة، أما الذين يمرون على آيات الكون، دون أن يحسنوا استعمال طاقاتهم السمعية والبصرية والعقلية فإنهم يبقون ضحايا الغفلة، كأن لم يسمعوا أو يبصروا. والخبرات الكونية المربية هـي التي مكنت الإنسان من اكتشاف قوانين الكون، وتسخير خيراته وكنوزه الهائلة الكاشفة عن قدرات الله ونعمه. ومن هـنا كانت التوجيهات القرآنية المتكررة التي تأمر بالتوجه إلي الكون والتفاعل مع مكوناته، من ذلك قوله تعالى:

( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ) (الأعراف: 185) . [ ص: 92 ]

( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ) (ق: 6) .

( انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ) الأنعام: 99) .

( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) (يونس: 101) .

والتفاعل مع عناصر الكون طبقا لمواصفات الخبرة المربية، ثمرته الرئيسية تحرير الإنسان من الخرافة، التي يصنعها الجهل بهذا الكون والقوانين التي تحكمه.

كذلك يمد هـذا التفاعل الإنسان بالوسائل الفعالة لتسخير عناصر الكون والاستفادة من خزائنه وثرواته. ويتفرغ عن هـذه الخبرات الكونية علوم الطبيعة متجددة، بتجدد المعرفة،وتراكم المكتشفات الكونية.

ب – الخبرات الاجتماعية

الاجتماع البشري هـو توأم الكون في مسيرة الوجود المتطور المنظمة، وأحداث هـذا الاجتماع هـي السلسلة الموازنة لتطور الكون. وحلقات هـذه السلسة حلقات فاعلة ومنفعلة، يتأثر كل منها بما سبقه ويؤثر فيما يتلوه.

والإنسان هـو محور هـذه المسيرة وقلبها. وهو حين يتفاعل مع مسيرة الوجود المشار إليها على أساس من الخبرات المربية، فإنه يقف على قوانين هـذه المسيرة، وآثارها، ويستفيد من ذلك كله في النمو والنضج المادي، والرشد الحضاري. أما حين يتفاعل مع مسيرة الوجود على أساس من الجهل والخبرات غير المربية، فإنه يصاب بالجمود والوهن المادي والثقافي، ويئول الى الضلال الاجتماعي والحضاري.

( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هـديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) (الإنسان: 1-3) .

ولذلك تتكرر التوجيهات القرآنية للخبرات المربية القائمة على النظر في وقائع الاجتماع البشري، وفي قيام المجتمعات وموتها، ونشأة الحضارات [ ص: 93 ] وانهيارها، ثم الاستفادة من القوانين التي تؤثر في ذلك كله، والنتائج التي تنتج عن عمل هـذه القوانين إيجابا وسلبيا. ومن أمثلة هـذه التوجيهات ما يلي:

( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) (يوسف: 109) .

( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة ) (الروم: 9) .

( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم ) (غافر: 82) .

( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم ) (محمد: 10) .

لذلك كان من مهمة التربية الإسلامية أن توجه " الإنسان والمتعلم " الى النظر في وقائع الاجتماع البشري في الماضي والمستقبل، والى أن يجوب الأرض بحثا عن المواقع التي جرت فيها الوقائع الماضية، فينقب في آثارها لدراستها وتحليلها واستخلاص الخبرات التي تؤثر في الخبرات التي تتلوها.

وعلى هـذه التربية ومؤسساتها أن توجه المتعلم، وتدربه على تحليل وقائع الحاضر، واستشراف المستقبل.. وتجاهل هـذه الوقائع والخبرات كلها، له نتائجه المدمرة. فالذين يتجاهلون خبرات الماضي، يرتدون الى كهوف العصر الحجري. والذين يقفون عند خبرات الماضين، يتوقفون عن مجاراة التطور والزمن، ويعرضون أنفسهم للفناء والدفن في الماضي.. والذين يعبثون بخبرات الحاضر – من مداحي أرباب القوة والجاه والثراء، ويقدمونهم كقوى تحرك التاريخ والاجتماع – يصرفون العقول عن قوانين الاجتماع البشري، ويفسدون أثر الخبرات الاجتماعية المربية، ويحولونها الى خبرات غير مربية، وينكصون بالإنسان الى عهد الصنمية والوثنية ، وما ينجم عن ذلك من مضاعفات الضعف والتخلف.

أما التفاعل الصحيح مع خبرات الماضي والحاضر والمستقبل، فثمرته [ ص: 94 ] اهتداء الإنسان إلى قوانين الاجتماع البشري، والاستفادة منها في تسخير القدرات والطاقات الإنسانية، لتقويم المسيرة البشرية، ولبناء الحضارات، التي ترقي بالنوع الإنساني، وتجنيبه العثرات والسقوط.

جـ - الخبرات الدينية

على الرغم من أن الخبرات الدينية هـي بعض نماذج الخبرات الاجتماعية، إلا أن إفرادها في هـذا البحث سببه المكانة العالية، التي تحتلها الخبرات الدينية في سلم الخبرات الاجتماعية. فالخبرات الدينية تحتل مكانة التوجيه والإرشاد لمسيرة الاجتماع البشري.. والتفاعل الايجابي مع هـذه الخبرات، يؤدي إلى رقي الإنسان ونشأته الحضارية، كما أن التفاعل السلبي يؤدي إلى انحطاط الإنسان وانهيار الحضارة.. ولعل أهمية هـذا الدور للخبرات الدينية هـو الذي جعل " ماسلو " يصنف الخبرات الدينية في خبرات القمة أو ما أسماه """"PeaK Experience"""" ثم مضى ينتقد على مناهج العلم والمعرفة المعاصرة تجاهلها لهذه الخبرات [1]

والقرآن فيه دعوة متكررة للتفاعل مع حركة الرسالات الإلهية، والخبرات الدينية، بما يشبه دراسة تاريخ الأديان، ومقارنة الأديان، والسير في الأرض، لتأسيس علم الآثار الديني، لتكون ثمرة ذلك كله الوقوف على حركة التطور الديني، التي رافقت تطور الاجتماع البشري، ثم انتهت وبلغت كمالها في الرسالة الإسلامية. وثمرة هـذا المنهج هـو تحرير الإنسان من حتمية " الكهانة والكهان " واكتشاف المسار الحقيقي للخبرة الإنسانية في هـذا المجال الحساس، ثم الاستفادة من ذلك كله في استنباط التوجيهات، والإرشادات الدينية اللازمة لعبور المستقبل. ولذلك فإن الخبرات الدينية التي لا تفيد في هـذه الثمرات، لا تكون خبرات مربية، وإنما هـي أيضا من جنس الرءوس بالقصاصات التي تتضمن أخبار الماضين، في ميدان الخبرات الدينية.

وفي جميع الخبرات الكونية والاجتماعية والدينية، تعتمد التربية الإسلامية [ ص: 95 ] في تفاعل الفرد مع هـذه الخبرات كلها، على أمور منها:

الأول: تحديد ميادين هـذا التفاعل في الكون، وأحداث التاريخ، ووقائع المجتمع البشري القائم، وتطوره نحو المستقبل.

الثاني: اعتبار ما يجري في الواقع القائم والوجود المحسوس هـو المحك الحقيقي لصوابية هـذه الخبرات وصدقها.

الثالث: هـو المراجعة المستمرة للخبرات الموروثة بغية تنقيتها من آثار طاغوت العصر، وما أفرزه من الخرافة والأساطير.

التالي السابق


الخدمات العلمية