الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- تدني مستوي " المثل الأعلى " إلى مستوى المحافظة على الجسد البشري

مرت مشكلة " المثل الأعلى " في التربية الحديثة بفترات مضطربة، انتهت به إلى التمحور حول " إشباع رغبات الفرد " ، أي المستوى الثالث: مستوى المحافظة على الجسد البشري. ولقد مرت هـذه المشكلة في مراحل تاريخية تنزلت بمستويات المثل الأعلى حتى حصرته في المستوى المشار إليه.

ففي المرحلة الأولى، كانت التربية الحديثة تستمد نموذج المثل الأعلى من المصادر المسيحية، الذي كان يفترض به أنه يمثل المستوى الأول: مستوى الارتقاء بالنوع الإنساني، ولكن التطبيقات الاجتماعية لهذا النموذج شاهدت صدمات خطيرة مع الطبيعة الإنسانية، ووقائع الحياة، كذلك اصطدام هـذا النموذج بحقائق العلم، التي جاءت بها النهضة الحديثة، وكانت حصيلة هـذا الصدام هـي تمرد الإنسان الغربي على المثل الأعلى المذكور، ثم التوجه إلى المصادر الفلسفية، خاصة خلال القرن الماضي، ومطلع القرن الحالي. وهذا التوجه حدد المرحلة الثانية للتطورات التي مرت بها مشكلة المثل الأعلى في التربية [ ص: 135 ] الحديثة.

ففي المرحلة الثانية، تبنت التربية المثل الأعلى الذي أفرزته تأملات الفلاسفة بالقدر الذي وصلت إليه قدراتهم العقلية، وجددته خبراتهم البشرية في البيئات التي سمحت لهم مهاراتهم اللغوية والفكرية وتفاعلاتهم الثقافية والإجتماعية. وكانت حصيلة هـذه المرحلة هـي النزول بالمثل الأعلى من المستوى الأول – مستوى الرقي بالنوع الإنساني – إلى المستوى الثاني: مستوى المحافظة على النوع البشري، بل إن هـذه الفلسفات استهدفت المحافظة على نوع معين من الأجناس البشرية وهو –الجنس الأبيض- باعتباره هـو الممثل الحقيقي للإنسان. ونتيجة لهذا النوع من " المثل الأعلى " برزت أيديولوجيات , " ومثل سوء " متطرفة مثل " النازية " , و " الفاشية " , و " سمو الرجل الأبيض " , التي تسببت في المآسي وألوان الدمار والتخريب, التي ما زال الإنسان يعاني منها حتى الوقت الحاضر. لقد هـيأ هـذا الفشل –بالإضافة إلى ظهور نظريات التطور البيولوجي- إلى انتقال التربية الحديثة للبحث عن نموذج آخر من –المثل الأعلى- في مصادر علم النفس الحديث. وهذا التوجه حدد المرحلة الثالثة أو المرحلة الحالية التي انتهت إليها مشكلة " المثل الأعلى. "

وأبرز خصائص " المثل الأعلى " في المرحلة الحالية هـو أنه نموذج يمثل المستوى الثالث: مستوى المحافظة على الجسد البشري, وإشباع شهواته وهو ما تطلق عليه التربية في الوقت الحاضر " إشباع رغبات الفرد " . أي عكست ترتيب مستويات المثل الأعلى, فجعلت الأداة هـي الهدف, ثم تنزلت بالهدف وأحالته في عداد الأدوات أو ضمن " روافع القوة Leveragee Power " كما هـو عند " مارجنتوا " رائد مدرسة العلوم السياسية الواقعية في الوقت الحاضر الذي أدرج " الدين " و " القومية " وكل نماذج المثل الأعلى السابقة في عداد الأدوات التي تستغل لإشباع رغبات الفرد. ونتيجة لهذا التطور, أصبح " المثل الأعلى " في التربية الحديثة هـو " إشباع رغبات الفرد وإعداده للحصول على ما فيه مصلحته. " ويختلف المختصون في شرح ما تعنيه " مصلحة الفرد " اختلافا كبيرا. فأناس يفسرون " مصلحة الفرد " بأنها الحصول على وظيفة [ ص: 136 ] رفيعة ومكانة عالية, وأناس يرونها في توفر فرص الحياة المادية الرغيدة, وآخرون يرونها في إعداد الفرد بالقدرات والمهارات التي تعده للحياة.

ولقد لخص – جون وايت - مختلف الآراء التي ناقشت " إشباع رغبات الفرد وتحقيق مصالحه " في قسمين رئيسين:

القسم الأول: مصالح أساسية: وهذه تقع بين مستويين اثنين، مستوى أدنى، من الغذاء، والكساء، والمأوى، والرعاية الصحية التي توفر البقاء على قيد الحياة. ومستوى أعلى يوفر للفرد مستوى عال من الطعام المغذي، والمأوى المريح، والصحة الجيدة، وهو ما لا يقنع الفرد في الأقطار المتقدمة إلا به.

ويلحق بهذه الحاجات الأساسية حاجات فسيولوجية ونفسية كالحاجة للجنس، والقدر المناسب من الحرية والأمن، والدخل المادي، والعمل المريح. وهذه وإن يجري الاتفاق على ضرورتها، إلا أن الاختلاف يقع حول درجة إشباعها.

والقسم الثاني: مصالح جوهرية: وخلاصتها أن مصلحة الفرد في توفير السعادة. وتتشعب الآراء في تفسير هـذه السعادة، فالناس يرون أن سعادة الفرد في إشباع رغباته التي يتمركز حولها اهتمامه، وفي قدرته على الحصول على الوسائل التي تحقق هـذه الرغبات. وخطورة هـذا الرأي، عند " جون وايت " ، أنه يثير مشكلات خطيرة، حين تتمركز رغبات الفرد حول رغبة شاذة، وتصبح وظيفة التربية التركيز على هـذه الرغبة الشاذة كذلك، رغم مزية الاختيار الحر، التي يوفرها هـذا الرأي. وأناس يقرنون سعادة الفرد بسعادة الحواس والمشاعر. وخطورة هـذا الرأي –عند وايت- إنه يقتل المسئولية في الفرد، لأن معناه أن لا يتعلم الإنسان شيئا، ولا يمارسه، إلا إذا سعدت به حواسه ومشاعره. فالطبيب إذا لم يسعد بعلاج المريض فلا داعي للقيام بذلك، والمرأة إذا لم تسعد برعاية أطفالها، فلا داعي لذلك أيضا، وهكذا [1] . [ ص: 137 ]

وهناك رأي ثالث يخالف الآراء السابقة مخالفة كلية. فهو يرى أن " مصلحة الفرد " تكمن في ( الإبداع النفسي) لأن المتعلم كالفنان، وليس كالباحث عن الحقيقة. فهو يرى حياته في التعبير عن أعمق مشاعره وحدسه. والخير لا يأتيه من الخارج، وإنما يخلقه هـو نفسه، لأنه يعيش في عالم ليس فيه قيم متأصلة، وإنما الإنسان يشكل نفسه، ويعطيها نوعا من الكمال والتوازن. ومعنى ذلك أن التربية يجب أن تتمركز حول التلميذ، ولا شئ سوى ذلك.

ويعلق " جون وايت " على هـذه الآراء مجتمعة بقوله: إن المشكلة في هـذه التفسيرات كلها،أنها تجرد " مصلحة الفرد " من القيم، وتفرغها من الفضائل والتعقل، وتبقي الفرد شبيها بالحيوان، الذي يتصرف طبقا لغرائزه، دون أن يكون لديه ما يوجه أعماله وعلاقاته مع الآخرين. كما يحرمه من النظرات المستقبلية [2]

وثمة مظهر آخر لإهمال " المثل الأعلى " يتمثل في الجدل الدائر حول قيمة الفضائل الأخلاقية، التي يجب أن تنتظمها أهداف تربية الفرد.

وخلاصة هـذا الجدال أنه يصعب تجاهل الأهداف الأخلاقية، بسبب الحاجة إلى ضوابط ومقاييس تنظم العلاقات بين الأفراد. ولكن يصعب أيضا تحديد مفهوم محدد واضح للفضائل الأخلاقية، بحيث لا يتناقض هـذا المفهوم مع الهدف الأساسي، وهو " إشباع رغبات الفرد " الذي مر شرحه.

لقد تناولت الفلسفات التربوية هـذه المشكلة، وعرفتها تعريفات متعددة. فبعضها – كالفلسفة البراجماتية - قالت: إن رغبات الفرد هـي فضائل في حد ذاتها، وبعضها قال: بتوفير الفرصة للفرد ليفهم الأخلاق، ثم تترك له الحرية ليمارس منها ما يشاء، بينما رأت مدارس أخرى أن الفضيلة هـي إبداعات عقلية [ ص: 138 ] تترك للفرد نفسه. ولكن المشكلة التي تشترك بها جميع الفلسفات التربوية هـي الافتقار إلى حل التناقض بين " إشباع رغبات الفرد " وأهداف التربية الأخلاقية.

وإزاء العجز عن تحديد العلاقة بين إشباع رغبات الفرد وبين التربية الأخلاقية، برز رأي يقول: باقتصار التربية على ما فيه " المصلحة العامة " .

ولكن المشكلة التي برزت هـي كيفية تحديد مفهوم " المصلحة العامة " والفرق بينهما وبين المصلحة الخاصة، وأين هـو حد التوافق بين المصلحتين [3]

ونتيجة لذلك كله، برز رأي آخر، دعا إلى صياغة أهداف التربية الأخلاقية طبقا لما أسماه بـ " نظرية الاكتفاء بالحد الأدنى من الأخلاق " وتسمى بالإنجليزيةTheMinimalist view [4]

وحجة أصحاب هـذا الرأي أن الحد الأدنى يوفر للأفراد أن يعيشوا حياتهم الخاصة، دون خوف من الأذى الجسدي، أو الغش، أو الخداع، أو العدوان والإهانة. فإذا تم ذلك قام المجتمع المثالي.

والمجتمع المثالي هـو الذي لا يحتاج فيه أحد إلى أحد، وإنما يقف كل فرد فيه مستقلا بأموره. ويعلق " جون وايت " على هـذه النظرية فيقول " والحد الأدنى للأخلاق مقياس واقعي، لأنه يراعي اهتمام الفرد برغباته الخاصة. فالمسيحية ومثلها الفلسفات التي تنادي بالحب العام تتجاهل الطبيعة الإنسانية، إذ ليس بمقدور الإنسان العادي أن يؤثر غيره على نفسه. والقديسون هـم نادرو الوجود، ولا قياس عليهم. والتربية تستطيع من حيث المبدأ أن تجعل منا قسيسين، ولكن ثمن ذلك هـو العبث بالطبيعة الإنسانية، التي نعرفها. ويمكن أن يجري غسل أدمغتنا لنؤثر غيرنا على أنفسنا، ولكن ما هـو المقابل لذلك؟ وما حق الغاسلين في تغيير طبائعنا؟

فالحد الأدنى للأخلاق –إذن – هـو المقياس الملائم للمجتمع الرأسمالي ، [ ص: 139 ] الذي ينشد الربح الخاص. وهو الذي يتلاءم مع أهداف التربية، التي تجعل رغبات الفرد محور اهتماماتها. وهو مقياس مرن يسمح للناس أن يتكاملوا مع بعضهم بعضا كما يرغبون [5]

ولكن السؤال الذي يواجهه المختصون هـو: كيف يمكن تحديد " الحد الأدنى " للأخلاق؟

يجيب " وايت " على هـذا السؤال بالقول: إن رأي الأكثرية هـو أن يترك ذلك للفرد نفسه، ليقرر مستوى الأخلاق التي سيمارسها. فإذا نوى الوفاء بالوعد، وعدم الأذى، وقول الصدق، وفعل الخير، وإعطاء الصدقة، فله ذلك. وإن أراد أن لا يفعل شيئا من ذلك، فلا ضير عليه، ولا لوم. وإذا تعارض مقياس " الحد الأدنى للأخلاق " مع مصلحة الفرد، فله أن يهبط بالحد الأدنى إلى درجة الصفر، ولا يفعل فضيلة على الإطلاق، وله أن يخلف وعده، وأن يؤذي غيره ولا يقول الصدق، إذا كان ذلك يخدم مصلحته، ولكن إن كان ذلك يلحق الضرر بسمعته فله أن يلتزم هـذه الفضائل، وإن استطاع النجاة من سوء السمعة والأذى، فله الخيار في ممارسة الأخلاق أو عدم الممارسة.

ويضيف " وايت " : إن هـذه هـي النظرية الشائعة في الوقت الحاضر، يمكن أن تشكل أهداف التربية الأخلاقية في المستقبل عند قطاع كبير من سكان الأرض. [6]

وهناك رأي آخر يربط بين هـدف " إشباع رغبات الفرد " وبين الأهداف الأخلاقية بما يسميه " الأخلاق الخلاصية Universalistic orality "

وهي أن يعيش الفرد من أجل خلاص الآخرين، وهو ما بشرت به المسيحية. ويذكر " جون وايت " أن التربية الشيوعية – هـي من هـذا النوع مع اختلاف بالطابع، فبدل أن تطبع الأخلاق الخلاصية بالطابع الديني، فإنها تطبعها [ ص: 140 ] بطابع مادي غير ديني، حيث يصلب الفرد في الدنيا من أجل الجماعة، كما تصلب المسيحية المسيح من أجل المجموعة، وهذه تربية غير واقعية.

تصلب رأي آخر يربط بين " إشباع رغبات الفرد " وبين التربية الأخلاقية بما يسميه " الأخلاق المحلية المحدودة ConcreteMorality "

حيث يتحلى الفرد بالأخلاق، ضمن مجموعة محدودة كالأسرة، أو الطائفة، أو الحي، أو الدائرة؛ لأنه لا فكاك له من حسن التعامل معهم. ولكن لا ضرورة لوجود قاعدة أخلاقية للتعامل مع من هـم خارج المجموعات المحلية المحدودة. [7]

ولقد كانت ثمار هـذه الآراء المتعلقة بتربية الفرد، وتحديد العلاقة بين رغباته وأخلاقه، أن صارت المؤسسات التربوية الحديثة تفرز إنسانا لا يتصف بأية ضوابط أخلاقية، ولا مقاييس اجتماعية. وهو – في أحسن أحواله – يكون محايدا أخلاقيا AMoralist أي لا هـو إلى جانب الأخلاق، ولا هـو ضدها، وإنما يتصرف طبقا لما تمليه رغباته ومصالحه المتلونة الموقوتة، وانطلاقا من هـذه المصالح والرغبات، قد يكون في موقف مع الأخلاق، وضدها في موقف آخر.

التالي السابق


الخدمات العلمية