الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
5- فقدان الإرادة وضعفها

كما أن الإرادة تنمو وتنضج، فإنها تضعف وتموت. لذلك لا تقف التوجيهات الواردة في القرآن والسنة عند الاشارة الى أهمية الإرادة ووظائفها، وإنما أيضا إلى النظر في أسباب ضعفها وموتها، للحذر من هـذه الأسباب وتجنب آثارها وتحديد أساليب معالجتها.

ويتم فقدان الارادة الجازمة النبيلة في ثلاث حالات هـي:

الحالة الأولى عند فقدان القدرات العقلية. وفي حالة هـذا الفقدان لا يتفاعل الفرد مع المثل الأعلى ، إذا عرض عليه، ويكون مثله مثل الذي فقد حاسة الشم، فإذا وجدت الرائحة، لا يحدث الإحساس بها، رغم وجودها. وهذه الحالة ليست مدار بحثنا، لأنها حالة مرضية ميدانها الصحة الجسدية والعلاج البدني.

والحالة الثانية أن توجد القدرات العقلية ويوجد المثل الأعلى، ولكن تكون القدرات العقلية مكبلة بـ " مثل السوء " تسرب إليها خلال الموروثات الاجتماعية والثقافية، التي يرثها الفرد من بيئته الأسرية والاجتماعية.

ولأهمية هـذه الموروثات نتناولها بشيء من التفصيل فنقول:

كما أن الطفل يولد على الفطرة في سمعه وبصره وشمه وذوقه، كذلك هـو في إرادته للخير، ونفوره من الشر، فإذا عرضت الأفكار والأعمال على الإنسان الفطري – خالي الذهن من الخبرات الاجتماعية والثقافية – فإن له القدرة على اختيار أفضلها، وأن تتوجه إرادته الى محبتها حتى تصل الى درجة التضحية بالمال والنفس. [ ص: 110 ]

ولكن الطفل يرث مثله الأعلى – في العادة – من المجتمع الذي ينشأ فيه، كما أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم حينما ( قال: ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه ) [1] . ولذلك كان واجبا على التربية أن تقوم بمراجعة وتقويم ما ورثه الطفل من بيئة " الآباء " الخاصة والعامة في ضوء نماذج المثل الأعلى التي تود التربية التي تنشئ الطفل على إرادتها.

وللتحقق من أثر الموروثات الاجتماعية في موقف الإنسان من المثل الأعلى، يمكن أن نلاحظ أن الإنسان يبصر، ويسمع، ويفهم بخلفيته الثقافية ومواريثه الاجتماعية. فالناس الذين يمشون، يلاحظ أحدهم الأماكن التي تباع فيها التحف القديمة، ويلاحظ آخر المكتبات التي تبيع الكتب والصحف، ويلاحظ ثالث الملاهي، ويلاحظ رابع المساجد، ويلاحظ خامس سمك الفسيخ، ويلاحظ سادس مطاعم الهامبرجر، وهكذا كل يلاحظ حسب الإرادات التي نمتها فيه الموروثات الاجتماعية – خاصة في عهد الطفولة. إن عيونهم التي في وجودهم تلتقط مثل آلات التصوير كل المشاهد، ولكن الذي يحضر الأفلام في الداخل ينتقي مشاهد معينة فقط. [2]

وهذا يعني أن وراء عيوننا الحسية عيونا أخرى اجتماعية تقوم بعملية الانتقاء. وهذه العيون هـي التي يتحدث عنها الله تعالى حين يقول:

( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) (الحج : 46)

والناس الذين تطرق آذانهم أصوات متعددة، تنقل إليهم موضوعات وأفكار عبر أجهزة الإعلام وفي الندوات والمحاضرات. ولكن بعضهم يسمع ويعي الأشعار – أو أشعارا معينة بالذات -، وبعضهم يعي الفقرات الدينية، [ ص: 111 ] وبعضهم يعي وينجذب للأغاني، وبعضهم يعي وينجذب للنكات المسرحية، وبعضهم يعي وينجذب للتعليقات السياسية، وبعضهم يعي وينجذب لأخبار العلم والتكنولوجيا. إن آذانهم التي في رءوسهم تتلقى جميع الأصوات، ولكن أجهزة تسجيل وتذيع مقطوعات معينة، أو موضوعات معينة فقط.

والناس يقرأون كتابا واحدا، ينقل إليهم عبر مقاعد الدرس أو التدريس، أو النشر، ولكن بعضهم يفهمه بما هـو في خير الإنسان، ولنصرة الحق والفضيلة. وبعضهم يفهمه بما هـو ضد الإنسان، وضد الحق والخير والفضيلة. إن عيونهم التي في رءوسهم تنقل نفس الكلمات، وتصور نفس الحروف، ولكن المترجم أو الشارح الذي في داخلهم يتبنى شروحات وتأويلات متباينة.

والذي يحدد جميع هـذه الأشكال من السمع والبصر والفهم هـو المواريث الثقافية والاجتماعية، التي تلقاها الفرد خلال التنشئة، من بيئته الخاصة والعامة. فإذا كانت هـذه الموروثات تناقض المثل الأعلى الذي تحمله هـذه المرئيات والمسموعات والمقروءات، فإن هـذه الموروثات تقيم سدودا حاجزة، وتغلق الأبواب أمام المثل الأعلى المرئي أو المسموع أو المقروء. ولقد أطلق القرآن الكريم على هـذه الحواجز أسماء: " الغشاوة " ، و " الوقر " ، و " الران " ، وأطلق على الموروثات الاجتماعية والثقافية التي أقامت هـذه الحواجز اسم: " الأغلال " ، واسم " الآصار " . وأكثر ما تقوم هـذه الحواجز في أوساط البيئات التي تحمل أكداسا وركاما تاريخيا من الفلسفات والعقائد والثقافات المختلفة والقيم والعادات والتقاليد المتباينة.

ومن هـنا يمكن أن نفهم قوله تعالى: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته )

فاختيار الرسول صلى الله عليه وسلم كفرد، والعرب المعاصرين له كمجتمع، بحمل الرسالة، مبني على أن فطرتهم كانت أكثر تحررا من [ ص: 112 ] الموروثات الاجتماعية والثقافية، حيث كانت المعلقات الشعرية أسمى إنتاجهم في هـذا المجال، وهي ذات موضوعات بسيطة، تدور حول أشياء العربي البسيطة آنذاك، ولا تحتوي على فلسفة أو عقائد، ولذلك كانت فطرتهم أسلم من المجتمعات المعاصرة لهم، من الفرس والروم، الذين كانوا يعانون من أخلاط مضطربة من العقائد، والفلسفات والمذاهب، والثقافات. فكانوا في ذلك الوقت الأنموذج الذي وصفه الله بقوله:

( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) (غافر: 83) .

ومن هـنا كذلك يمكن أن نفهم مواقف المجتمعات الإسلامية فيما بعد من دعوات التجديد والإصلاح، بعد أن تجمعت عندهم أخلاط من المذهبيات والرق المتباينة، والتأويلات المختلفة، التي انحدرت إليهم من الآباء خلال القرون.

وبسبب هـذه الآثار السلبية الثقافية والاجتماعية الفاسدة، كانت شكوى نوح عليه السلام من المجتمع الذي عاصره عندما قال:

( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) (نوح: 26-27) .

فهو لم يعن أن الأطفال يولدون مزودين بإرادات الكفر والفجور. فهذا يتعارض مع المبدأ الإسلامي، الذي يقرر أن الإنسان يولد مفطورا على تعشق المثل الأعلى ، وإرادة الهدى والفضيلة. وإنما أراد تصوير هـيمنة الموروثات الثقافية والاجتماعية التي كانت – منذ وقت مبكر – بذرة " الإرادة النبيلة " في نفوس الناشئة، بحيث يستحيل أن تنمو هـذه البذرة فيما بعد، وأن استمرار مثل هـذه الموروثات سوف يؤدي الى إفساد الإرادات عند العباد كلهم، ودفعهم في طرق الضلال.

والخلاصة: إن مثل الأفراد الذين يعانون من هـيمنة الموروثات الثقافية والاجتماعية المناقضة للمثل الأعلى، مثل الذي تعرض علية الروائح الزكية، ولكن حاسة الشم عنده مصابة بمرض الزكام. وهؤلاء يطلب إليهم العلاج، [ ص: 113 ] فإذا رفضوه وظلوا يتعللون بعدم القدرة على الشم، لم يعذروا، واحتاجوا الى الحجر الصحي والحمية -بكسر الحاء وسكون الميم- والعلاج القسري، حتى لا تنتقل عدوى أمراضهم الى الأصحاء كلهم. وهذا هـو " منهج التربية الإسلامية " في معالجة البيئات التي تنتشر فيها هـذه الحالات، ثم تستعصي على الشفاء من الإرادات الفاسدة. فقد كان الجهاد عمليات جراحية لاستئصال الأعضاء البشرية الفاسدة، حتى لا ينتشر فساد إرادتها الى بقية البشر، وحتى تكسر الحواجز أمام المثل الأعلى ، الذي تريد هـذه التربية أن تعرضه على عقول الأفراد الذين لم يروه.

والحالة الثالثة أن توجد القدرات العقلية ولا يوجد المثل الأعلى، فتكون هـذه الحالة مثل الذي لديه حاسة الشم ولكن لا توجد الرائحة الزكية. لذلك لا يحدث الإحساس بها. وهذه حال المجتمعات التي افتقرت المؤسسات التربوية فيها منذ زمن طويل الى " المثل الأعلى " . ومثلها نظم التربية الحديثة التي فصلت بين العلوم الإنسانية وعلوم الدين، وبين العلوم الطبيعية، ثم أهملت الأولى، أو قللت من شأنها، بينما شجعت الثانية ورعتها، ورفعت من مكانة المتخصصين فيها. ومثلها أيضا النظم التربوية التي قامت – وتقوم – في ظل الاحتلال والاستعمار ، أو تلك التي تقوم في ظل التسلط وكبت الحريات، والطبقية والتمييز العنصري. فجميع هـذه النظم تلجأ في العادة الى بناء نظم تربوية تستبعد المثل الأعلى، الذي ينمي إرادات العقيدة والقيم العليا والأخلاق الرفيعة، وتستبدله بـ " مثل سوء " يدور حول إرادات الطعام والنكاح وما يتفرع عنها من إرادات المتعة واللهو، ويصاحب ذلك كبت الحريات الذي يحول دون نمو القدرات العقلية ونضجها. ثم يكون نتيجة ذلك كله إخراج إنسان ضعيف الإرادة أو فاقدها، فيسهل التحكم به وتسخيره، دون أن تتحرك فيه إرادة التحرر أو المساواة والعدالة الاجتماعية.

ومثل هـؤلاء الأفراد يعذرون، ويعرض عليهم المثل الأعلى، والذين يرفضونه بعد العرض لا يعذرون، والى ذلك يشير قوله تعالى:

( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) (الإسراء: 15) . [ ص: 114 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية