الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
3 – كيفية تنمية القدرات العقلية ومنهج التفكير السليم

المحور الرئيس في المنهج اللازم لتنمية القدرات العقلية, والتفكير السليم، هـو التفاعل مع عناصر الكون القائم, والأحداث الجارية فيه.

القدرات العقلية تنمو وتنضج من خلال دراسة هـذا الكون, وعناصره المتناثرة في الكرة الأرضية, وغيرها من الكواكب. ولذلك كانت التوجيهات الإسلامية للسير في الأرض، والبحث في نشأة عناصر الوجود, وتطور هـذه العناصر وتركيبها.

أما التفاعل مع الأحداث الجارية، فلا بد أن يتم هـذا التفاعل في بعدين رئيسين: البعد المكاني، والبعد الزماني, أو نقول: بعد الجغرافيا وبعد التاريخ, وإلى البعد المكاني كانت التوجيهات القرآنية للبحث في آثار المجتمعات الماضية, ونشاطات المجتمعات القائمة, وذلك بقصد الوقوف على قوانين الله في انهيار المجتمعات الماضية, ثم النظر في بدء هـذه المجتمعات والتطورات التي اعترتها, أو تعتريها, خلال مسيرتها الطويلة, وكذلك النظر في المجتمعات المعاصرة, وتحليل عوامل قيامها, ونشاطها الجاري. [ ص: 66 ] أما البعد الزماني فقد تعددت الإرشادات والتوجيهات القرآنية إليه, من خلال الدعوة للنظر في أحداث التاريخ, وتطور الحضارات, والمجتمعات, والظواهر الاجتماعية, والدينية, والثقافية, التي رافقت العصور والأزمان المتتالية.

وكلما اتسعت رحلة القدرات العقلية, وعملية التفكير, خلال بعدي الوجود الزماني والمكاني المشار إليهما, كلما نمت هـذه القدرات, وأحكمت عملية التفكير, وتمكن الإنسان من مواجهة المشكلات القائمة بثقة, وقدرات عقلية مناسبة.

ولا بد من الانتباه الى أن تنمية القدرات العقلية, تحتاج الى مراعاة عدد من الأمور هـي:

1- أن القدرات العقلية تولد كامنة في الإنسان , وهي تنمو وتشتد بالرعاية والتربية, وتضعف أو تموت بالإهمال, أو سوء الاستعمال, أو سوء التربية، أو سوء السلوك، والتطبيقات الخاطئة، أو أجواء القهر والتسلط.

والإشارات القرآنية الى أمثال ذلك كثيرة ومتعددة, تجتمع الإشارة إليها جميعا في مثل قوله تعالى: ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) (المطففين:14) .

2- أنه لا نهاية للقدرات العقلية , بل هـي متنوعة, ومتدرجة, بتنوع الموجودات وظواهر الكون ومواقف الحياة، وأن في الإنسان قدرات عقلية هـائلة, ما زال القسم الأكبر منها لم يستعمل. ويشير القرآن الى أن في الإنسان قدرات عقلية, تمكنه من معرفة المخلوقات كافة, والوقوف على نشأتها وتكونها, وما يتعلق بها. والى هـذه القدرات يشير قوله تعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ) (البقرة:31) .

3- أن مجموع العمليات العقلية والتفكيرية التي يقوم بها الإنسان في مواجهة موقف معين هـو عملية العقل، كعملية الهضم أو الشرب أو النوم. والعاقل هـو من كانت لديه القدرات العقلية, التي يتطلبها الموقف, ويستطيع القيام [ ص: 67 ] بالخطوات التفكيرية, بالترتيب الذي ذكرناه. والتمرس بهذه القدرات والمهارات حتى درجة الإحاطة بالموقف, ومعالجته إلى الدرجة التي تحل المشكلة, وتفرز الحلول المطلوبة, هـو الحكمة, التي تجعل صاحبها حكيما بسلوكه, خبيرا بموضوعه.

4- أن الفشل في تربية القدرات العقلية, ومنهج التفكير, يفرز آثارا خطيرة جدا في حياة الفرد والمجتمعات سواء.

فالفرد الذي لا تنضج قدراته العقلية, ومنهج التفكير فيه, حين يحس بمشكلة ما, أو يواجهه موقفا معينا فإنه يصاب بالحيرة, ويظل يدور في دوامة الإحساس بالمشكلة, ولذع الجهل بها, حتى ينتهي الأمر به إلى أحد موقفين: إما أن ينفعل, ويركب التعسف, والتخبط, وإما أن يلفه الدوار، ويستسلم للموقف المشكل, ثم يئول إلى الانهيار. وكلا الموقفين مظهر من مظاهر القصور العقلي, والفشل في مواجهه المشكلة أو الموقف.

وقد يكون لدى الفرد القدرة العقلية الأولى: القدرة على الحفظ, أو القدرة على خزن المعلومات واسترجاعها. ولكن لا يكون مضطرب التفكير, كأن يقفز من الخطوة الأولى, وهي الإحساس بالمشكلة, إلى الخطوة الأخيرة, وهي طرح الحل واستعماله. وقد ينظر للموقف نظرة جزئية, فيتعلق بالمعلومات الناقصة, ويصدر الحكم.

وهذه الحالات هـي ثمرة التربية العقلية الناقصة, أو الخاطئة.. وفي جميع هـذه الحالات، لا يصل صاحب هـذا النوع من العقل والتفكير إلى الحل, أو الحكم الصحيح, وتنعكس آثار هـذا النقص سلبيا عليه, وعلى من حوله, ويسمى غير عاقل. والفرد الذي يعاني من هـذا النقص, لا ينتفع بالموجودات المحيطة به ولا يسهم بتسخيرها. والمجتمع الذي لا يهيئ لأفراد البيئات التربوية الحرة لتنمية القدرات العقلية ومهارات التفكير, ولا المناهج والمؤسسات والوسائل اللازمة لذلك, يظل مجتمعا متخلفا غائبا عما حوله [ ص: 68 ] ويعيش كلا على غيره, ولا ينتفع بالموجودات الحيطة به، ولا يسخرها, ولا ينتفع بالأحداث والتيارات التي جرت في الماضي, أو تجري في الحاضر, وتنقلب مصادره البشرية والمادية شؤما عليه والى هـذا العجز يشير القران الكريم:

( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هـم أضل أولئك هـم الغافلون ) (الأعراف: 179) .

5- لا بد من ملاحظة أن المنهج الذي يكشف عن القدرات العقلية, ويرعى تنميتها, هـو منهج علمي, يتخذ مختبره من ميدان الآفاق, والنفس البشرية, وأنماط الحياة الاجتماعية، وآثار القدرات العقلية نفسها, في عالم الواقع, وفي ميادين الكون. وليست الاستشهادات التي أتينا على ذكرها من القران والسنة إلا إشارات توجيهية لدخول المختبر المشار إليه.

أما المنهج اللغوي، أو التأملي, الذي استعمله الماضون, فهو منهج أوقعهم في كثير من الأخطاء, وقاد إلى نكسات هـائلة, في ميادين العلم والفكر والاجتماع.

6- أن إتقان منهج التفكير وأشكاله والتدرب على مهاراته, وكذلك نمو القدرات العقلية, شرطان أساسيان في الفهم والسلوك. فالقرآن يذكر بوضوح أن الذكرى فيه, هـي لأولى الألباب, وأن الذين يتقنون مهارات العلم والتعلم هـم الذين يعلمون مراميه ومقاصده, بينما يفتقر المعرضون عنه إلى المهارات الأولية في التعليم, وهي حسن الاستماع, الذي أقر بآثار فقدانه المعرضون حين اعترفوا بعدم الفهم, وقالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه:

( كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون ) (فصلت: 3-5) . [ ص: 69 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية