2- مستويا ت الإرادة:
والإرادة مستويات تتطابق مع مستويات المثل الأعلى . وهذه المستويات قسمان: بعضها أساسية وبعضها فرعية:
أما المستويات الأساسية فهي:
إرادة الإنسان للغذاء لبقاء الجسم.
وإرادة الإنسان للنكاح لبقاء النوع الإنساني.
وإرادة العقيدة والقيم ليرتقي الإنسان بنوعه.
والذي تهدف إليه التربية الإسلامية أن تنمو هـذه المستويات الثلاثة، وأن تتخذ مواقعها حسب نسق معين، تحتل فيه " إرادة العقيدة والقيم " منزلة التوجيه والإرشاد، بينما تتوجه الإرادتان الأخريان نحو مقاصدهما في ضوء التوجيهات والإرشادات المشار إليها، توجها واعيا قائما على الاقتناع والقبول. وبذلك تعطي الإنسان منزلته العليا، وتخرجه عن إرادات الحيوان، الذي يتوقف عند إرادة الغذاء والنكاح.
ولا يعني ذلك الحط من قيمة الاقتصاد والتمتع بنعم الله، وإنما معناه أن الاقتصاد يكتسب قيمته من أثره الأخلاقي، ومدى إسهامه في رفع قيمة النوع البشري، لا مجرد الوقوف عند بقاء النوع البشري.
فإرادة العقيدة والقيم هـي الهدف، بينما يكون دور كل من الإرادتين الأخريين هـو دور الوسيلة المساعدة للوصول الى هـذا الهدف. فالمسلم يريد الطعام والنكاح، ولو ترك الطعام فمات لكان منتحرا، ولو ترك النكاح لكان خارجا عن النهج المستقيم. ولو حرم غيره من الطعام لكان قاتلا، ولو حرم غيره من النكاح لكان مفسدا. ولكن لا يجوز أن يجعل الطعام والنكاح مثله [ ص: 103 ] الأعلى، بل يطلبهما طلب الوسيلة المحصلة الى مثله الأعلى. [1]
والإنسان فيه ميل طبيعي الى تعشق المثل الأعلى ، الذي يرتقي بنوعه ولا يقف عند الإسهام في بقائه الجسدي. وحين تثبت التربية إرادته عند إرادة الطعام والنكاح، ينتابه القلق وعدم الاستقرار، والإحساس بالغربة، حتى يبلغ مستوى العقيدة والقيم، أو ما يقابل تحقيق الذات، التي هـي حاجة تعلو الحاجات الفسيولوجية كما يقرر " ماسلو " في سلم حاجاته الشهير.
وحين تنمو الإرادات الأساسية التي مر ذكرها، وتتكامل حسب النسق الذي عرضناه، فإن عددا من الإرادات الفرعية ذات الأثر الايجابي يتفرع عنها.. ويقدم القرآن أمثلة لهذه الإرادات الفرعية منها:
إرادة الإحسان: ( إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ) (النساء: 62) .
وإرادة الإصلاح: ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ) (هود: 88) .
وإرادة الهدى: ( أتريدون أن تهدوا من أضل الله ) (النساء: 88) .
وإرادة النصح: ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ) (هود: 34) .
وإرادة التيسير: ( وما أريد أن أشق عليك ) (القصص: 27) .
وإرادة التواضع والصلاح: ( لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) (القصص: 83) .
وإرادة الآخرة: ( ومنكم من يريد الآخرة ) (آل عمران: 152) .
ومثلها إرادة التعلم، وإرادة الفضائل والأخلاق، وإرادة الحلال في المأكل والملبس والجنس، والنفور من الإرادات السيئة المحرمة، التي تقابل [ ص: 104 ] الإرادات الفاضلة والمباحة.
ومحور هـذه الإرادات كلها، الذي تتوحد فيه وتتفرع عنه، إرادات الله سبحانه وتعالى :
( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) (الكهف: 28) .
( تريدون وجه الله ) (الروم: 39) .
وإرادة الله يكون من ثمراتها تفجر جميع الإرادات النبيلة، التي تتوجه للارتقاء بالحياة وطهرها، وشيوع الحق والعدل فيها، وسهولتها ويسرها:
( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ) (المائدة: 6) .
( ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ) (الأنفال: 7) .
( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (البقرة: 185) .
( وما الله يريد ظلما للعباد ) (غافر: 31) .
أما إذا انحسرت العقيدة والقيم، وهيمنت إرادة الطعام وإرادة النكاح، فصارتا هـما الهدف، وما يقابلهما في سلم " مثل السوء " هـو المثل الأعلى ، فإن التربية تكون قد خرجت عن مسارها السليم. ولذلك فإن نظم التربية التي تجعل الرفاهية المادية، وزيادة الدخل، وثقافة الاستهلاك، أسمى درجات المثل الأعلى الذي تتحرك نحوه إرادة المتعلم، لا تعتبر – في الواقع – هـي النموذج لنظم التربية؛ لأنها تهمل إنسانية الإنسان.
إن التربية التي تجعل مثلها الأعلى هـو الرفاهية المادية وثقافة الاستهلاك ، تفرز عددا كبيرا من الإرادات الفرعية الفاسدة ذات الآثار السلبية مثل:
إرادة الدنيا: ( منكم من يريد الدنيا ) (آل عمران: 152) . [ ص: 105 ]
( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ) (النجم: 29) .
وإرادة الفحشاء: ( قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ) (هود: 79) .
وإرادة العدوان: ( فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا ) (الإسراء: 103) .
وإرادة طمس الحق: ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ) (الصف: 8) .
وإرادة الإفساد: ( ويريدون أن تضلوا السبيل ) (النساء: 44) .
وإرادة الخيانة: ( وإن يريدوا خيانتك ) (الأنفال: 71) .
وإرادة النفاق والمداهنة: ( يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ) (النساء: 91) .
وإرادة الجبن: ( إن يريدون إلا فرارا ) (الأحزاب: 13) .
وإرادة التزييف: ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) (الفتح: 15) .
وإرادة الكيد والمكر: ( فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ) (الصافات: 98) .
وإرادة الجاه: ( ما هـذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ) (المؤمنون: 24) .
ومثلها إرادات العصبية أو القوم أو الجنس أو الوطن، وإرادة الحرام من المال والمطعم والجنس، وإرادة السلطان والتجبر، وإرادة اللهو، وإرادة المتعة والترف، وإرادة الرذيلة، وغيرها من الإرادات السيئة والمحرمة.
فهذه كلها إرادات يريدها الإنسان الذي تقف إرادته الرئيسة عند إرادة الطعام وإرادة النكاح، وهي كلها تؤدي الى هـبوط النوع الإنساني، ولذلك [ ص: 106 ] جعلها الإسلام إرادات فاسدة كالروائح النتنة. ولهذا، لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أتباعه يريدون الولاء للعصبية، ويصيحون: يالآل فلان! ( قال لهم: دعوها فإنها منتنة ) .
وإيراد هـذه الأمثلة والنماذج القرآنية للإرادات، لا يعني أن نقف عند ما ورد في القرآن والحديث، وإنما معناه أن نسترشد بهذا الإطار العام لمفهوم الإرادة، ثم نمضي قدما في تصنيف تفاصيل الإرادات الفرعية، في ضوء الخبرات والحاجات القائمة. أي أن المطلوب أن يبرز " فقه تربوي " في كل زمان ومكان تكون مهمته بلورة نماذج الإرادات التي يراد من التربية والمؤسسات التربوية أن تنميها في ضوء التطور الجاري، والحاجات المتجددة، والتحديات القائمة.
ومن الطبيعي أن بلورة مثل هـذه النماذج من الإرادات، يجب أن يسبقها بلورة نماذج مطابقة من المثل الأعلى ، الذي يمثل حاجات المرحلة والمكان كذلك.
وحين تنجح التربية في ذلك كله، وتشيعه، وترسخه، تكون قد عملت على إيجاد ما يسمى بـ " روح الأمة " !!