سادسا: ضرورة توازن الإرادة العازمة والقدرة
التسخيرية في تربية الفرد
من الضروري أن تتوازن الإرادات النبيلة العازمة، مع القدرات التسخيرية في تربية الفرد، ومن خلال هـذا التوازن يتولد " العمل الصالح " بالصورة التي مر عرضها في هـذا البحث. ومعنى هـذا أن تعمل التربية على تنمية الإرادات العازمة حتى درجة التضحية بالمال والنفس، ثم تعمل بنفس القدر من الجهد والكفاءة لتنمية القدرات التسخيرية، حتى درجة التسخير الكامل للإمكانيات المادية والبشرية المتوفرة.
ومن الخطورة البالغة أن تقصر تنمية إحدى الاثنين عن الأخرى، فتركز التربية – مثلا – على تنمية الإرادات دون القدرات أو العكس، فلذلك آثاره المدمرة في حياة الأفراد والأمم، ولتوضيح ذلك نستعرض آثار القصور في تنمية القدرات التسخيرية، وآثار القصور في تنمية الإرادات النبيلة الجازمة، كما هـو حاصل في تطبيقات التربية المعاصرة في الشرق والغرب.
حين تغفل التربية -أو تجهل- تنمية القدرات التسخيرية عند المتعلمين إلى المستوى اللازم، الذي تستدعيه حاجات العصر، وخبراته، في الوقت الذي تجد وتنتج في تنمية الإرادات العازمة النبيلة، إلى درجة التضحية بالمال والنفس، فإن الأفراد في كل عمل يمارسونه، ينتهون إلى الفشل والإحباط، وهذه هـي حالة الأفراد الذين تخرجهم مؤسسات التربية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية، ومثلها المؤسسات التربوية الموازية كالأحزاب، والجماعات، والمساجد، وبرامج الإعلام الديني، والوطني. فجميع هـذه المؤسسات تفصل تفصيلا كافيا في عرض محتويات المثل الأعلى – الديني [ ص: 127 ] والوطني -، وتنمي إرادات الأفراد إلى درجة التضحية بالمال والنفس. ولكنها تهمل – إهمالا يكاد يكون كليا – الخبرات المربية، التي تتفاعل مع القدرات العقلية لتفرز القدرات التسخيرية . ويكون من نتيجة هـذا الإهمال قصور القدرات التسخيرية عن الإرادات العازمة ، فيحدث الاضطراب في التفكير والعواطف والمشاعر والسلوك، وينشأ التخبط في إصدار الأحكام واتخاذ القرارات وتنفيذها، وتتكرر مواقف الفشل والإحباط. وتكرار الفشل هـذا له نتائج سلبية مدمرة، تنعكس على اتجاهات الأفراد والجماعات سواء.
فهو – أولا: يؤدي إلى فقدان الثقة بالمثل الأعلى ، فتضعف الإرادة العازمة النبيلة، وتقصر عن مستوى التضحية بالمال والنفس، ويتراجع الفرد إلى إرادات الطعام، وإرادات الحفاظ على الجسد أو النوع، ويقعد عن العمل العام، ويتوقف عن المشاركة في الجهاد. وهذه حال كثير من الأفراد والشعوب في الأقطار العربية والإسلامية المعاصرة. فكثير من الأفراد المشتغلين في المبادئ والقضايا الوطنية والإسلامية، انتهى بهم تكرار الفشل والإحباط إلى التخلي عن هـذه المبادئ والقضايا، والانسحاب الجزئي، أو الانسحاب الكلي، أو الانسحاب الجزئي للاشتغال بإرادات الطعام والحفاظ على الجسد والذرية، أو الانسحاب الكلي من المجتمعات العربية والإسلامية للانضمام إلى مجتمعات غير عربية ولا إسلامية. وهذه – أيضا – حال كثير من الشعوب العربية والإسلامية التي عجزت قدرتها التسخيرية عن تلبية الحاجات الداخلية، ومواجهة التحديات الخارجية، وانتهت إلى تكرار الفشل والإحباط والهزيمة، فإنها – أيضا – انسحبت انسحابات جزئية لتنكفئ على أمورها الخاصة، أو انسحابات كلية لتقطع انتماءاتها، أو تتخلى عن مسئولياتها إزاء القضايا المشتركة. ثم تبحث عن انتماءات أخرى تشاركها إرادات البحث عن الطعام، والحفاظ على النوع.
والأثر الثاني: هـو أن كثيرا من الأفراد والجماعات ممن نمت إرادتهم وقصرت عنها قدراتهم التسخيرية، إذا واجهوا المشكلات، فإنهم يعالجونها بما يشبه التهلكة والانتحار، حيث لا يعرفون لمواجهة الأزمات، وحل المشكلات، [ ص: 128 ] إلا طريقا واحد هـو طريق العنف الانتحاري بالقول والعمل، ويقترفون الحماقة، ويجانبون الحكمة. وهذه هـي الصفة الغالبة على الأفراد والجماعات والهيئات الرسمية والشعبية، والمنظمات الوطنية العاملة في ميادين البناء الداخلي، أو المقاومة للاحتلال الخارجي.
أما عن آثار القصور في ميادين الإرادات النبيلة العازمة، فإن الظاهرة البارزة لآثار هـذا القصور هـي فقدان الإنسان للسعادة، وفقدان لذة الاستمتاع بثمرات النجاح، الذي توصله إليه القدرات التسخيرية .
وهذه هـي حال التربية في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار المتقدمة خاصة في أوروبا وأمريكا . فلا شك أن هـذه المؤسسات قد حققت نجاحات هـائلة في ميادين الخبرات المربية، والقدرات العقلية، التي تزاوجت لإنجاب أفراد ذوي قدرات تسخيرية عالية في ميادين الكشف والاختراع، وتطوير التكنولوجيا، والإرادة، والسياسة، وغيرها. ولكن المشكلة التي أفرزتها المؤسسات التربوية هـناك هـي الأزمة في الإرادات النبيلة العازمة. فهذه المؤسسات تعاني من قصور شديد في مجال تربية الإرادة. حيث تقف مستويات هـذه الإرادة التي تنميها المؤسسات التربوية المذكورة، عند مستوى إرادات الطعام، وإرادات الحفاظ على النوع، ولا تتخطاها إلى مستوى إرادة الارتقاء بالجنس البشري، والسبب في ذلك هـو غياب ( المثل الأعلى ) وقصور مستويات ( المثل السوء ) الذي تعرضه الفلسفات التربوية الموجودة هـناك. مما أفرز – وما زال يفرز – سلاسل متلاحقة من الأزمات الأخلاقية والاجتماعية. وتكرار هـذه الأزمات له نتائجه السلبية المدمرة في اتجاهات الأفراد والجماعات سواء.
فهو – أولا: يؤدي إلى فقدان الثقة بالعلم. وخيبة الآمال، التي ترتبت عليه– كما يقول ادجارفور وزملاؤه في تقريرهم التربوي. - ذلك أن التفاوت الهائل بين التكنولوجيا المتقدمة التي أفرزها العلم، وبين القيم الإنسانية المتخلفة بسبب غياب (المثل الأعلى) ، قد قلب ثمرات العلم، والتقدم، [ ص: 129 ] إلى عكس الغايات التي نشأ العلم بسببها. فالإنسان أصبح يعاني – أكثر من قبل – من حالات الاضطراب النفسي ، والقلق الفردي والجماعي.
والأثر الثاني: هـو ظهور ظاهرة – الاغتراب Alienation التي يعاني منها الإنسان المعاصر، وشدة الحاجة إلى معرفة الذات الإنسانية، وهوية الإنسان. ومكانته، وعلاقاته بنفسه وبالآخرين من حوله. [ ص: 130 ]