1- تضييق مفهوم " العمل الصالح " وحصره بالإنتاج المادي
إذا كانت التربية الإسلامية قد جعلت " العمل الصالح " سمة الفرد الذي تستهدف إخراجه، فإنها في تفسيرها لمفهوم العمل الصالح، قد انتهت إلى أن العمل الصالح يتجسد في " الفرد الصالح – المصلح " بالمفهوم الواسع الذي مر عرضه.
أما التربية الحديثة التي انتشرت في أرجاء الأرض بانتشار الحضارة الغربية فقد حصرت مفهوم " العمل الصالح " في الإنتاج المادي، وإيجاد " الفرد المنتج – المستهلك " .
ولذلك يلاحظ أن المؤسسات التربوية الحديثة، كالمدرسة، والمعهد، والجامعة، تركز على إعداد الفرد ليكون " منتجا " بينما تركز المؤسسات الموازية كالإعلام والصحافة والتلفزيون، على إعداد الفرد ليكون " مستهلكا " . [ ص: 131 ]
ولقد ناقش العديد من الباحثين الصفة الأولى – وهي إعداد الفرد ليكون منتجا – فذكروا أن المدارس المعاصرة تهيئ الناشئة – بالدرجة الأولى – لحياة العمل الإنتاجي، وذلك بوسيلتين:
الأولى: أنها تعلمهم مهارات محددة ذات علاقة بالعمل.
والثانية: أنها تنمي فيهم الاتجاهات والعادات الضرورية للأداء الوظيفي الفعال.
ويضيف هـؤلاء أن الأمر لا يحتاج إلى عميق نظر لملاحظة التوازي بين تربية الطفل " كعامل " ووظيفة المعلم " كرئيس عمال " أو " مشرف عمال " .
وأنه يجري التركيز على هـاتين الصفتين في جميع مستويات التعلم. ذلك أن جميع المهن، تحتاج في الغالب إلى عمال وموظفين، لهم معرفة بالوقت ودقة في أوقات الحضور، ومثابرة مستمرة بالعمل، حتى تنطلق صفارة التوقف. وهذا النوع من اليقظة والدقة هـو ما تدرب المدارس الطلبة عليه، من خلال التأكيد على عمل الواجبات المدرسية، وأهمية الحضور، وعدم التأخير، الذي يتسبب في خصم بعض العلامات، ودق الجرس في وقت محدد، وإدارة فصول الدراسة بالطريقة التي تدار بها المصانع والمعامل، وإشاعة الاتجاهات والقيم والعادات المطلوبة في دنيا العمل.
ويسمي " جون جارولمك " هـذه التعليمات والنظم كلها بـ: " منهاج المدرسة الخفي " الذي يندر أن تبرز نصوصه واضحة، رغم أنها جزء رئيس من عمل المعلم. فأصحاب العمل يميلون عادة لتعليم العمال الواجبات الدقيقة، وأن يجري إنجازها بسرعة وطاقة وحيوية، على مستوى عال من الانجاز. وهم يتوقعون من المدارس أن تطور هـذه الصفات، قبل دخول الناشئ دنيا العمل. ومن أبعاد هـذا " المنهاج الخفي " تدريب الناشئ على التعاون مع الآخرين، والعمل كفريق من ناحية، وتدريبهم على التنافس الذي يحتاجه عالم العمل من ناحية أخرى، وهذا من شأنه أن يخلق نوعا من التناقض في شخصية الفرد، ويهيئ لأسباب الصراع الذي يدور في العادة في أماكن العمل [ ص: 132 ] في صفوف العمال والموظفين، لأن الفرد لا يستطيع أن يكون متعاونا ومنافسا في آن واحد.
ومن أبعاد هـذا " المنهاج الخفي " أن المدرسة تركز على المهارات الأساسية اللازمة لدنيا العمل، كالقراءة، والكتابة، والحساب، وحسن الحديث، كذلك يجري التركيز على المقررات العلمية والمهنية، وإعطاء المكانة الأولى لها بينما يقلل من قيمة الدراسات المتعلقة بإنسانية الإنسان، ورفعته، وأخلاقه، وتهمل الدراسات الدينية إهمالا يكاد يكون تاما [1]
أما عن الصفة الثانية وهي-إعداد الفرد ليكون مستهلكا-فهذا واضح في الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام والصحافة، والسينما، والتلفزيون، والمعارض، وغيرها. وإذا كانت الإعلانات التجارية تمارس التربية الإستهلاكية بصورة مباشرة، فإن تنمية الاتجاهات الاستهلاكية، تجري بأساليب غير مباشرة في السينما والتلفزيون، والتركيز على قصص الحب ومسلسلات الغرام. وما يتفرع عنها وخلالها من المناظر والمواقف، ليس هـدفا في ذاته، وإنما هـو وسيلة لعرض ما يتخلل هـذه المواقف والمناظر من مظاهر الحفلات، واللباس والزينة، والهدايا والسيارات والتنزه، والرحلات، وكل ما يتطلبه التسويق التجاري ورفع شهية " الاستهلاك " ، وتوجيه المشاهدين إلى ذلك كله. ونحن نعلم الأثر الذي يحدثه أمثال ألفيس برسلي ، أو جيمس بوند ، أو ممثل السيارة المسحورة، أو ممثلات الإغراء في نشر بنطلون الجينز، وسيارات الجاكوار، والمسجلات الموسيقية، والأزياء والموديلات، وإيجاد " الفرد المستهلك " الذي يستهلك أكثر مما يحصل عليه من الأجر.
ولا يقتصر هـذا الفرق في التوجيه على الأفراد وإنما يمتد إلى المجتمع، ففي حين تسهم التربية الإسلامية في إفراز ما يمكن أن نسميه " ثقافة القيم " ، حيث [ ص: 133 ] تقاس الأنشطة والظواهر الاجتماعية، بمقاييس القيم والمثل الأخلاقية التي جاء بها الإسلام، فإن التربية الحديثة تسهم في إفراز ما يمكن أن نسميه بـ " ثقافة العمل والاستهلاك " ، وقياس الأنشطة بمقدار ما يستهلكه الفرد والجماعة. كذلك يمتد هـذا الأثر إلى العادات والتقاليد وغير ذلك من مظاهر الحياة الاجتماعية القائمة.
والواقع أن إفراز " ثقافة العمل والاستهلاك " في المجتمعات الحديثة قد أدى إلى ظاهرتين، إحداهما إيجابية، والأخرى سلبية. أما الظاهرة الإيجابية فهي تحديد مكانة كل فرد بمقدار ما ينتجه، فأدى ذلك إلى تقدم الصناعة، ووفرة الإنتاج. ولكن الظاهرة السلبية أن مكانة الفرد تحددت بمقدار ما يستهلكه في ميادين الحياة المادية، وبذلك اشتمل التنافس بين الأفراد والجماعات، وشاعت المقاييس المادية، وحلت محل المقاييس الأخلاقية والعلمية، وانقطع التواصل وانهار الاجتماع، وأصبحت النفعية المادية تحكم العلاقات وتوجهها. وليس صحيحا أن النفعية شاعت لأن فلسفة تربوية معينة - كالبراجماتية - أو فيلسوفا خاصا مثل " جون ديوي " قال بها وتبناها، وإنما البراجماتية جاءت ثمرة " ثقافة الاستهلاك " ، ولم يزد " جون ديوي " وأمثاله عن دور تبرير ما شاع وانتشر، ثم صياغته صياغة تربوية علمية، كما هـو منهج التفكير الغربي، الذي يستمد مبادئه مما يشيع في الواقع، ويعترف به المجتمع.
ولكن أخطر مظاهر هـذا الأثر السلبي أن التربية الحديثة قضت على الجانب الإنساني الأخلاقي في شخصية الفرد المعاصر. لأن هـذه النظم فصلت بين العلوم الطبيعية، وبين العلوم الإنسانية والدينية، ثم حصرت الثانية والثالثة في تخصصات معزولة عن تيار الحياة الجاري، وجعلت مهمتها – في أحسن الظروف - المشاركة في الترويح، وتخفيف التوترات النفسية والاجتماعية، التي تفرزها بيئة العمل والاستهلاك. في حين هـيأت جميع الوسائل لتفجر المعرفة الطبيعية، وتطبيقاتها التكنولوجية، واستعمالاتها الاجتماعية، دون إرشاد أو توجيه. فأدى ذلك إلى انهيارات في توازن المجتمعات، وإلى بروز [ ص: 134 ] طبقتين من الناس: طبقة أقلية تملك ثمار هـذه المعارف والتطبيقات التكنولوجية، وتتحكم بالمصائر، وطبقة تنتج هـذه التطبيقات وتنال أقل من أثمان المواد التي يجري تشجعيها على استهلاكها.
وكانت المحصلة لذلك كله عودة " الصنمية " إلى وجدان الفرد المعاصر، حيث انغرس في نفسه نوع من –الاقتران الإشراطي- بقدرة الإنسان على رزق أخيه الإنسان أو حرمانه، وقدرته على منح الحياة أو سلبها، فأدى ذلك كله إلى عودة الرق في شكل يناسب العصر، كما تشير إلى ذلك الدراسات التي أفرزتها منظمات العمل الدولية، والمعاهد المتخصصة.