الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

تخطيط وعمارة المدن الإسلامية

خالد محمد مصطفى عزب

المسألة الثانية عشرة : إن الحضارة في الأمصار من قبل الدولة، فإنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها، وذلك لأن الدول تجمع أموال الرعية وتنفقها في بطانتها.. والبطانة فيمن تعلق بهم، وهم الأكثر من أهل المصر، فتعظم لذلك الثروة، وتزيد عوائد الترف، وتستحكم الصنائع في سائر فنونه، وهذه هـي الحضارة.. لذلك تجد الأمصار القاصية -ولو توفر عمرانها- يغلب عليها أحوال البداوة في جميع مذاهبها، بخلاف مدن الأقطار التي هـي مركز الدولة ومقرها، وذلك لمجاورة السلطان وفيض أمواله فيهم، كالماء يخضر به ما يقرب منه، إلى أن ينتهي في البعد منه إلى الجفوف ثم إذا اتصلت تلك الدولة، وتعاقبت ملوكها على ذلك المصر، واحدا بعد واحد، استحكمت الحضارة فيهم، وزادت رسوخا واستقرارا. [ ص: 132 ]

شواهد اعتبار

أحدها: أن الشام لما طال فيها ملك اليهود نحوا من ألف وأربعمائة سنة، رسخت فيه حضارتهم، وتحذقوا في عوائد المعاش والتفنن في صنائعه، من المطاعم والملابس، وسائر أحوال المنزل، قال ابن خلدون : حتى إنها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم. الثاني: أن مصر لما دام فيه ملك القبط ثلاثة آلاف سنة، رسخت -أيضا- عوائد الحضارة في بلدهم، وأعقبهم فيها ملك اليونانيين والروم، ثم ملك الإسلام الناسخ للكل، فلم تزل عوائد الحضارة فيها متصلة. الثالث: أن اليمن لما اتصلت به دولة العرب من عهد العمالقة والتبابعة آلافا من السنين، وأعقبهم ملك مضر، رسخت فيه -أيضا- عوائد الحضارة. الرابع: أن العراق لما توالت فيه دول النبط، والفرس من لدن الكلدانيين ، والكينية، والكسروية، والعرب بعدهم، آلافا من السنين، رسخت فيها الحضارة أيضا، قال ابن خلدون: فلم يكن على وجه الأرض -لهذا العهد- أحضر من الشام والعراق ومصر . الخامس: أن الأندلس، لما امتدت فيه الدولة العظيمة للقوط [ ص: 133 ] آلافا من السنين، ثم أعقبها من ملك بني أمية -قال ابن خلدون : وكلا الدولتين عظيم- اتصلت فيها عوائد الحضارة واستحكمت.

السادس: أن إفريقية لما صارت إلى الأغالبة ، كان لهم فيها من الحضارة بعض الشيء، لما حصل لهم من ترف الملك، وكثرة عمران القيروان ، وورث ذلك عنهم كتامة ، ثم صنهاجة قال: وذلك كله قليل؛ لم يبلغ أربعمائة سنة، وانصرمت دولتهم، واستحالت صبغة الحضارة، لعدم استحكامها، وتغلب بدو العرب الهلاليين عليها، وبقي أثر خفي من حضارة العمران.. قال: وإلى هـذا العهد يؤنس فيمن له بالقلعة أو القيروان ، أو المهدية سلف، بتحوله من الحضارة في شئون منزله وعوائد أحواله وآثار ملتبسة بغيرها، يميزها الحضري البصير بها وكذا في أكثر أمصار إفريقية.

السابع: أن المغرب انتقل إليه منذ دولة الموحدين من الأندلس حظ كثير من الحضارة، فما كان لدولتهم من الاستيلاء على بلادها وانتقال الكثير من أهلها إليهم طوعا وكرها، قال: ثم انتقل أهل شرق الأندلس عند جالية النصارى إلى إفريقية ، فأبقوا بها من الحضارة آثارا، ومعظمها بتونس ، امتزجت بحضارة مصر وما ينقله المسافرون من عوائدها وكان بذلك للمغرب وإفريقية حظ من الحضارة صالح، [ ص: 134 ] عفى عليه الخلاء، ورجع على أعاقبه، وعاد البربر إلى أديانهم من البداوة والخشونة قال: وعلى كل حال فأثر الحضارة بإفريقية أكثر منها بالمغرب ، لما تداول فيها من الدول السالفة أكثر من المغرب، ولقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر المترددين بينهم، فتفطن لهذا السر فإنه خفي عن الناس.

التالي السابق


الخدمات العلمية