المبحث الأول: حكم إقامة المسلم في ديار الكفر
لما كان الأصل في دار الإسلام، أن المسلم فيها يقدر أن يمارس عبوديته لخالقه، ويعان عليها، وتوفر له وسائلها، ويذكر إن قصر فيها، مع شعوره بالأمن والطمأنينة، شرعت الهجرة إليها، بل أمر بها. [ ص: 65 ]
والهجرة في الأصل : (الترك، فعلا كان أو قولا) [1] . وتأتي بمعنى : (الخروج من أرض إلى أرض) [2] حسا.
وفـي الاصطـلاح : هـي هـجـر المقـام بين الكافـرين والمنافقين الذين لا يمكنونـه من فعل ما أمر الله بـه، ومـن هـذا قـولـه تعـالـى : ( والرجز فاهجر ) (المدثر : 5) [3] أو هـي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام [4] وأقول بداية : الأصل أن المسلم لا يقيم إلا في دار المسلمين، وإذا أقام في غيرها فلعذر مع بقاء نية الخروج منها متى رفع السبب، وتهيأت الظروف (لأن نية الاستمرار في دار الكفر لا تحل بلا مبرر شرعي) [5]
حكم الهجرة
حكم الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، مرتبط ارتباطا وثيقا بمدى إمكانية المسلم ومقدرته على إقامة شعائر دينه بأمان تام، وبعدم خشية الفتنة في دينه ودين أهله وعياله، فإن كان لا يقدر على إظهار دينه ويخاف الفتنة والاضطهاد فيه أو في دين أسرته، ففي هـذه الحالة تجب [ ص: 66 ] عليه الهجرة متى استطاع عليها، بالإجماع [6] .. واستدل لذلك بما يلي :
أولا : قوله تعالى : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ) (النساء : 97-99) .
ففي هـذه الآية أوجب الله على المسلمين الذين يقيمون بين ظهراني المشركين، وليسوا متمكنين من إقامة الدين، أوجب عليهم الهجرة بشرط المقدرة والطاقة. وقالوا : إن الآية عامة في كل مسلم، فقوله تعالى : ( ظالمي أنفسهم ) ، أي بترك الهجرة وبارتكاب الحرام بالإقامة بين الكافرين، من غير أن يتمكن من أداء واجباته الدينية، إن كان قادرا بأي وجه وبأي حيلة؛ لأنه غير معذور.
وقوله تعالى : ( إلا المستضعفين ) ، وهذا عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة، وهم من كان استضعافه على حقيقة من زمنة الرجال، وضعفة النساء والولدان، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين بأي سبب، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق. [ ص: 67 ]
يقول القرطبي : (يجوز ترك الهجرة عند فقد الزاد والراحلة) [7] قلت : ومفهوم الزاد والراحلة اليوم، توفر السيولة المالية لديه، والوسيلة التي تنقله.
" يقول ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين الذين عذر الله، هـي من النساء وأنا من الولدان " [8] فإن حمل العاجز على نفسـه وتكلف الخـروج أجـر، وقد دعـا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المستضعفين في صلاته [9] وقال العلماء : (إن هـذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة في حق من أسلم في دار الكفر وفتن في دينه، وقدر على الخروج منها) [10] ثانيا : ( قول النبي صلى الله عليه وسلم : أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى [11] نارهما. ) [12] [ ص: 68 ]
وحديث معاوية وغيره مرفوعا، قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) [13] فحمل العلماء الهجرة في هـذين الحديثين على من خاف الفتنة واضطهد، وقالوا : (أمر المسلمون بالانتقال إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ليكونوا معه فيتعاونوا، ويتظاهروا إن حزبهم أمر، وينضموا إلى المؤمنين في القيام بنصرة الرسول، ويتعلموا منه أحكام الدين ويتفقهوا فيها، ويحفظوا عنه، وينقلوه) [14] وكانت فرضا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الأعيان، واستمرت بعده لمن خاف [15] الاضطهاد في حريته الدينية.
ومما هـو جدير بالذكر أن الهجرة ليست عملية انسحابية هـروبية، ولكنها انتقالية من دار الباطل الجبار العنيد إلى دار الحق للالتزام به علانية، وتكثير سواد أهله، والاستعداد معهم للكر على تلك الدار التي حالت دون إسماع الناس دعوة الإسلام.
فالهجرة بالمفهوم القرآني هـي تحيز إلى فئة، وهي جماعة المسلمين.
ومن شروط وجوب الهجرة، توفر حرية الانتقال، والدار التي يفر إليها المسلم بدينه.. وبإلقاء نظرة على واقع دار الإسلام المعاصرة، نجد أن [ ص: 69 ] هذه الدار غير مؤمنة وغير مهيئة تهيئة كاملة تمكنها من استقبال عشرات الملايين من المسلمين المضطهدين في العالم. هـذا إذا سمحت لهم السلطات بدخولها أصلا، أو أذنت لهم سلطات بلادهم بالرحيل عنها [16] ويمكن القول : إن المسلمين الذين يفتنون في ديارهم من أجل عقيدتهم، وهم غير قادرين على الهجرة، هـم معافون إن شاء الله من الإثم، وسوف يسأل عنهم دينا من تسبب في حدوث هـذه الشقاوة والتعاسة لهم، مع قدرته على رفع هـذا الحرج عنهم.
ولكن يجب التذكير أن أي جماعة مسلمة في أي بلد من البلاد غير الإسلامية تقدر أن تحمي دينها ونفسها ومالها، فإنه يحرم الخروج منه، ويجب البقاء فيه.
يقول صاحب نهاية المحتاج : (من قدر على الامتناع والاعتزال في دار الكفر، ولم يرج نصرة المسلمين بالهجرة، كان مقامه واجبا؛ لأن محله دار إسلام، فلو هـاجر لصار دار حرب، ثم إن قدر على قتالهم ودعائهم للإسلام لزمه وإلا فلا) [17] وفي الجملة، إذا كان المسلمون في ديار المشركين ضعفاء لا يرجون ببقائهم ظهور الإسلام، ويمنعون من إظهار شعائرهم الدينية والقيام [ ص: 70 ] بواجباتها، وجبت عليهم الهجرة متى توفرت شروطها وإلا فلا، مع بقاء نية الهجرة قائمة في القلب، والعمل على قدر وسع النفس لتحقيقها، قال تعالى : ( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) (العنكبوت : 56) .
وأما من وجبت عليه وهو قادر عليها ولم يهاجر، فإنه يرتكب إثما قد يؤدي إلى الردة والكفر؛ لأن الإقامة على هـذه الحال، وترك الدين مع التزام إجابتهم إلى الكفر المقام عليه وارتكاب المحرمات، وترك الفرائض والواجبات، وفعل المحظورات والمنكرات وهو قادر على هـجرانها، فظاهر حاله المصير إلى الكفر الحقيقي، والانسلاخ من الدين الحنفي، والانخراط في سلك الملحدين.. فالواجب وقتئذ الفرار من تلك الدار التي غلب عليها أهل الشرك والخسران، إلى دار الأمن والأمان [18] وأما إذا كان المسلمون يتمكنون من إظهار دينهم بحرية، ولا يخشون فتنة فيه على أنفسهم، أو على أسرهم، فمذهب الجمهور إلى أن هـذه الهجرة غير واجبة.
والجمهور يستحبون للمسلم أن يهجر دار الكفر، وإن استطاع إظهار دينه، حتى لا يكثر سوادهم [19] ، ويميل إليهم في الرسوم والخلق، والعادة، والهيئة، لتأثير الجوار والصحبة. [ ص: 71 ]
ويتأكد هـذا الاستحباب في زماننا، لشيوع الفواحش في دار الكفر، وضعف السلطة الأبوية.. صحيح أن الزمان قد فسد، وأن البلاد كلها يجاهر فيها بالمعاصي، ولكن ينبغي على المسلم في مثل هـذه الحالة، أن يختار أقل البلاد إثما إن استطاع.
قال البغوي : (يجب على من كان ببلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك، الهجرة إلى حيث تهيأ له العبادة، فإن استوت جميع البلاد في إظهار ذلك -كما في زماننا- فلا وجوب بلا خلاف) [20] ويقول ابن تيمية : (أحوال البلاد كأحوال العباد، فيكون الرجل تارة مسلما وتارة كافرا، وتارة مؤمنا وتارة منافقا، وتارة برا تقيا وتارة فاجرا شقيا، وهكذا المساكن بحسب سكانها، فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة، كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة) [21] وما يتعرض له المسلمون اليوم في بلدان العالم غير الإسلامي من عدم احترام مشاعرهم الدينية، إلى محاولات الدمج في المجتمعات التي يقيمون فيها، سواء من قبل سلطات البلاد أو رغبة من أبناء المسلمين في عملية الاندماج، والتي يترتب عليها رفض للمبادئ التربوية والعادات الإسلامية، وقطع للصلة بينهم وبين عقيدتهم، وتراثهم الديني، [ ص: 72 ] (وفرنجة) فكرهم وسلوكهم، والتخلق بأخلاق القوم هـناك [22] ، إلى التأثر بمناهج تلك البلاد التربوية، والتعليمية في التكوين الفكري والنفسي والاجتماعي، والتي تناقض أخلاقياتنا، وتعاليم ديننا وحقائقه، بالإضافة إلى البيئة، وعلاقة أبناء المسلمين بغيرهم وأثرها عليهم في تكوين شخصياتهم، وطريقة تفكيرهم، مع فقدان جهاز الرقابة في الأسرة، وضعف المؤسسات التعليمية المسلمة في تقديم الخدمات الاجتماعية، وعدم وجودها بالقدر الكافي وبالفعالية المطلوبة، في مقابل ما تقدمه النوادي ووسائل الإعلام من الشرور والفساد والرذيلة [23] ، ما يكفي لهـدم ما لدى المسلم من قيم إسلامية ومثل عليا.. يضاف إلى ذلك ما تضطلع به المدارس والمؤسسات الكنسية النشطة وغيرها، والتي تعمل ليل نهار، لإخراج الناشئة المسلمة من الإسلام إلى النصرانية وغيرها من الأديان، أو الاكتفاء بدمجها وتذويبها في المجتمعات هـناك.
كل ذلك يفرض علينا أن نقول : (إن من لم يستطع مقاومة تلك المحاولات والمؤثرات ومجانبتها، وطأطأ لها رأسه -من أبناء المسلمين- وعاشها بما فيها، فإن قول من قال بحرمة الإقامة في تلك البلاد -والحال هـكذا- صائب، وإن توفرت له الحرية الدينية، التي تسمح بإظهار شعائر دينه إن أراد، فإن ما كان ذريعة وسببا إلى إسقاط عبادة الله بمفهومها [ ص: 73 ] الرحـب وإلـى مـوالاة المشـركين فهـو حـرام، ومـا أدى إلـى الحـرام فهو حرام) [24] إلا إن كـان في إقامتـه مصلحـة معتبـرة للمسلمين، (وذلك لأن ما يترتب على بقائه من الخير، سيتضاعف على ما يمكن أن يجعل له من الشر والضرر، على أن يكون قادرا على إظهار دعوته، وشعائر دينه وهكذا الحكم في إقامته من أجل مصلحة تهم المسلمين، كتعلم نوع من العلوم، أو صنعة من الصنائع أو نحوهما ممـا تحتاجـه الأمـة الإسلاميـة ولا يوجد في ديارهم، أو ليكون سفيرا لدولة الإسلام عندهم) [25]