الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
- المطلب الثاني: الصلاة

لا يخفى على كل مسلم أن الصلاة هـي الركن الثاني من أركان الإسلام الخمسة، وأن الله تعالى قد فرض خمس صلوات في اليوم والليلة، وأنها تجب على المسلم العاقل البالغ العالم بها، وأن من أنكرها فقد خرج من الملة.

ولمنزلتها العظمى في الإسلام، فقد حذر الشرع، وتوعد المضيعين لها،

فقال تعالى: ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) (مريم: 59) .

وجعل النبي صلى الله عليه وسلم : ( بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. ) [1] وفي هـذا المطلب عدة مسائل يحتاج المسلم في ديار غير المسلمين إلى معرفتها، وهي:

المسألة الأولى: مواقيت الصلاة

‎‎ وهذه المسألة تنقسم إلى عدة أقسام، وتشمل: تعريف الميقات، ومواقيت الصلاة في البلاد المعتدلة، وكذا غير المعتدلة. [ ص: 90 ]

أولا: في تعريفها لغة وشرعا

في اللغة: يقال وقت الله (بتشديد القاف وتخفيفها) الصلاة، أي: حدد لها وقتا، والميقات: الوقت المضروب للفعل، والجمع مواقيت [2] في الشرع: المراد به (الوقت الذي عينه الله لأداء هـذه العبادة (الصلاة) ، وهو القدر المحدود للفصل من الزمان [3]

ثانيا: في مواقيت الصلاة في البلاد المعتدلة

وأعني بالبلاد المعتدلة: البلاد التي يحل فيها ليل ونهار، ويتمايزان عن بعضهما في كل أربع وعشرين ساعة.

والأصل في مواقيت تلك البلاد، ما رواه مسلم في صحيحه ( أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا (باللفظ والقول) ، وفي رواية بريدة ، فقال له: صل معنا هـذين (اليومين " . قال (راوي الحديث وهو أبو موسى الأشعري ) : فأقام الفجر (أي النبي صلى الله عليه وسلم ) حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا، ثم أمره (أي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا) فأقام الظهر حين زالت [4] الشمس، والقائل يقول: قد انتصف النهار، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت (أي غربت) [ ص: 91 ] الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها، والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو كادت، ثم أخر الظهر حتى كان قريبا من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها، والقائل يقول: قد احمرت الشمس، ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول ) (وفي رواية: ( أن وقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط ) ) [5] ثم أصبح فدعا السائل، فقال: ( الوقت بين هـذين ) ، يعني أن وقت صلاتكم في الطرفين اللذين صليت فيهما، وفيما بينهما.

ثالثا: في ضبـط الصلاة في البـلاد غيـر المعتـدلة، كالقطبين وما يدخل في حكمهما

إن ما ورد في الأحاديث الصحيحة من تحديد مواقيت الصلاة وضبطها، إنما هـو للبلاد المعتدلة التي كان يقيم فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وما يأخذ حكمها، ولكن ما الطريقة لضبط مواقيت الصلاة في البلاد التي لا شهور فيها ولا أيام معتدلة، بل قد تكون السنة في البلاد المعتدلة يوما، كالجهات القطبية والإسكندنافية التي يطول نهارها صيفا ويقصر شتاء، أو البلاد الشمالية التي لا تغيب عنها الشمس إطلاقا صيفا وعكسه شتاء، أو البلاد التي يتداخل ويتحد فيها وقتا العشاء والفجر في بعض [ ص: 92 ] أشهر السنة وهي البلاد التي يتجاوز موقعها خط العرض 84 شمالا أو جنوبا [6] سأعرض هـنا أقوال الفقهاء في بيان تحديد وضبط أوقات الصلاة فيها، كما هـي من كتبهم ثم أناقش وأرجح.

1- أقوال الحنفية

جاء في فتح القدير ما نصه:

(ومن لا يوجد عندهم وقت للعشاء، كما قيل يطلع الفجر قبل غيبوبة الشفق عندهم، فقد أفتى البقالي بعدم الوجوب عليهم لعدم السبب وهو مختار صاحب الكنز ( الزيلعي ) [7] ، كما يسقط غسل اليدين من الوضوء عن مقطوعهما من المرفقين) . ولا يرتاب متأمل في ثبوت الفرق بين عدم محل الفرض (وهو هـنا اليدان المقطوعتان من المرفقين) ، وبين عدم سببه الجعلي (وهو هـنا انتفاء علامة وقت العشاء) الذي جعل علامة على الوجوب الخفي الثابت في نفس الأمر، وجواز تعدد المعرفات للشيء، فانتفاء الوقت انتفاء للمعرف، وانتفاء الدليل على الشيء لا يستلزم انتفاءه لجواز دليل آخر. [ ص: 93 ] ‎‎

معنى كلام ابن الهمام : (أنه إذا عدمت علامة دخول وقت العشاء، وهي غياب الشفق وعدم طلوع الفجر معه، باعتبارها علامة معرفة له، ليس معناه أن الصلاة تسقط بعدمها، لوجود دليل آخر يدل على وجوبها، وإن لم توجد العلامة الدالة على الوقت) . ثم قال: وقد وجد (أي الدليل الآخر الدال على وجوب صلاة العشاء، بالرغم من عدم وجود علامتها) وهو ما تواطأت عليه أخبار الإسراء من فرض الله سبحانه خمسا (أي الصلاة) ، بعدما أمروا بخمسين، ثم استقر الأمر على الخمس شرعا [8] عاما لأهل الآفاق، لا تفصيل فيه بين أهل قطر وقطر.

ثم ما ثبت ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجـال فقلنا (أي الصحـابة) : وما لبثه في الأرض؟ فقال (أي النبي صلى الله عليه وسلم ) : أربعون يوما، يوم كسنة، ويـوم كشهـر، ويوم كجمعـة، وسائـر أيامه كأيامكـم. فقيل: يا رسـول الله! فذلك اليـوم الذي كسنـة، أتكفينـا فيـه صـلاة يـوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره ) [9] . فقد أوجب فيه ثلاثمائة عصر قبل صيرورة الظل مثلا أو مثلين، وقس عليه.

فاستفدنا أن الواجب في نفس الأمر خمس على العموم، غير أن توزيعها على تلك الأوقات عند وجودها، فلا يقسط بعدمها الوجوب [ ص: 94 ] وكذا ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : (خمس صلوات كتبهن الله على العباد ) [10] [11]

2- أقوال المالكية

جاء في مواهب الجليل ما نصه: ورد في صحيح مسلم أن مدة الدجال أربعون يوما، وأن فيها يوما كسنة، ويوما كشهر، ويوما كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، فقال الصحابة: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة، أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: ( لا، اقدروا له قدره ) [12] قال القاضي عياض : (في هـذا حكم مخصوص بذلك اليوم، شرعه لنا صاحب الشرع) وقال: (لو وكلنا إلى اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام) ، ومعنى (اقدروا له قدره) ، أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم، فصلوا الظهر ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر فصلوا العصر، وهكذا إلى أن ينقضي ذلك اليوم، وقد وقع فيه صلوات سنة كلها فرائض مؤداة في وقتها.

وأما اليوم الثاني كشهر، والثالث الذي كجمعة، فقياس اليوم الأول. [ ص: 95 ]

3-أقوال الشافعية

جـاء في روضـة الطالبين: أما الساكنـون بناحيـة تقصـر لياليهم ولا يغيب عنهم الشفـق، فيصلـون العشـاء إذا مضـى مـن الزمـان قـدر ما يغيب فيه الشفق، في أقرب البلاد إليهم [13] . أي فإن كان شفقهم (شفق أقرب البلاد) يغيب عند ربع ليلهم مثلا، اعتبر من ليل هـؤلاء بالنسبة، لا أنهم يصيرون بقدر ما يمضي من ليلهم؛ لأنه ربما استغرق ذاك ليلهم [14]

4- أقوال الحنابلة

جاء في غاية المنتهى: ويقدر للصلاة أيام (الدجال) قدر المعتاد من نحو ليل أو شتاء ويتجه، وكذا حج وزكاة وصوم [15] ، وبمثله قال صاحب الإقناع [16] ولم أجد من تعرض لمسألة فاقد وقت العشاء من الحنابلة .

ويتضح لنا من خلال سرد تلك النقول، أن جماهير العلماء يقولون بوجوب صلاة العشاء على أهل البلاد التي ينعدم فيها وقتها، وهو غياب الشفق، معتمدين في ذلك على عموم النصوص الآمرة بإقامة الصلوات [ ص: 96 ] الخمس، من غير تفريق بين إقليم وآخر، على سبيل الوجوب، وعلى حـديث (الدجـال) الآمـر بالتقديـر للصلـوات، والمبين وجـوبها، وإن لم يوجد سببها على وجه العموم.

رابعا: أقسام البلاد غير المعتدلة، وكيفية ضبط المواقيت فيها

تنقسم هـذه البلاد إلى قسمين:

القسم الأول: قسم لا تغيب عنه الشمس لفترة ستة أشهر تقريبا، ثم تغيب مطلقا بقية السنة.

وهذه ينسحب عليها حديث (الدجال) ، فيقدر أهلها للصلوات الخمس، حيث يؤدونها كاملة في كل أربع وعشرين ساعة، معتمدين في ذلك على أقرب البلاد إليهم، والتي تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها عن بعض، وعليهم أن يوزعوها على أوقاتها اعتبارا بالأبعاد الزمنية التي بين كل صلاتين.

ويقاس على ذلك سائر الأحكام المتعلقة بالأيام والأهلة، من عدة وصوم وزكاة.

‎‎ يقول الشيخ محمد رضا : (أرأيت هـل يكلف الله تعالى من يقيم في جهة القطبين، وما يقرب، أن يصلي في يومه وهو سنة، أو عدة أشهر خمس صلوات فقط؟ كلا، إن الآيات الكبرى على كون هـذا القرآن من [ ص: 97 ] عند الله المحيط علمه بكل شيء، ما نراه فيه من الاكتفاء بالخطاب العام الذي لا يتقيد بزمان من جاء به ولا مكانه) .

فأطلق الأمر بالصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم بين أوقاتها بما يناسب حال البلاد المعتدلة، التي هـي القسم الأعظم في الأرض، حتى إذا وصل الإسلام إلى أهل تلك البلاد التي أشرنا إليها، يمكنهم أن يقدروا للصلوات باجتهادهم، والقياس على ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الله المطلق، فيقدروا لها قدرها.. ولكن على أي البلاد يكون التقدير؟ قيل: على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة ، وقيل: على أقرب بلاد معتدلة إليهم، وكل منهما جائز، فإنه اجتهادي لا نص فيه [17] ‎‎ وقد أفتت هـيئة كبار العلماء في السعودية، في دورتها الثانية عشرة، بالتقدير على أقرب البلاد التي تتمايز فيها أوقات الصلاة المفروضة [18] قلت: وفي كل خير، ولكن بشرط أن يتفق مسلمو تلك البلاد، ومراكزها على بلد معين، حتى لا تختلف صلواتهم في البلد الواحد، فتصلي جماعة بتوقيت مكة، وتصلي الأخرى بتوقيت أقرب البلاد، فيحصل الشقاق والاختلاف، وكل محرم منهي عنه. [ ص: 98 ]

القسم الثاني: قسم تتميز فيه الأوقـات عـدا العشـاء، فإنه يتحـد مع الفجر.

فالراجح من أقوال جماهير أهل العلم، وجوب صلاة العشاء على تلك البلاد وحرمة تركها. ولكنهم اختلفوا في وقت أدائها، وفي النية لها، هـل تؤدى أداء أم قضاء؟

قلت: الأظهر والأقرب إلى النص (حديث الدجال) ، أن يقدر المسلمون في تلك البلاد لوقت العشاء بأقرب البلاد، فتكون صلاة العشاء فيها أداء، وصلاة المغرب فيه قضاء، لانتهاء وقتها حسب التقدير، وهو قول المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، حيث حدد درجة 45 للقياس عليها، وهي درجة إحدى المناطق في فرنسا، يغيب الشفق فيها قبل طلوع الفجر [19] . وفي هـذا التقدير رفع حرج، وفيه يسر، ويصلح لبريطانيا وما جاورها.

المسألة الثانية: حكم الصلاة في معابد أهل الكفر

ذهب جمهور الفقهاء إلى كراهة الصلاة في الكنائس وغيرها من معابد أهل الشرك، وعللوا الكراهة بوجود الصور فيها؛ ولأنها ملعونة؛ ولأنه لا يتعبد الله في بيوت أعدائه، ولأنها مأوى الشياطين كالحمام. [ ص: 99 ] ‎‎

وقد روى البخاري " عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور " ، ولا فرق بين أن تكون المعابد عامرة أو دارسة (أي تقادم عهدها) .

وذهب الإمام مالك إلى القول بالمنع مطلقا، وهو رواية عن أحمد .

وذهب بعض أصحاب أحمد إلى الجواز مطلقا [20] قال ابن تيمية : (والصحيح أنه إن كان فيها صور لم يصل فيها؛ لأن الملائكـة (ملائكـة الرحمـة لا الحفظـة، لا تدخـل بيتا فيـه صـورة [21] ، وأما إذا لم يكن فيها صور فقد صلى الصحابة في الكنيسة) [22] ‎ وإذا جازت الصلاة في كنيسة مع خلوها عن الصور، جازت في أي معبد آخر لا يوجد فيه صور.

ويظهر من كلام الجمهور أن من صلى فيها مع وجود التماثيل فصلاته صحيحة مع الكراهة [23] ، وإن كان الأولى أن ينأى المسلم في صلاته عن مثل هـذه الأماكن إذا توفرت له أماكن أخرى ولم يحتج إليها.. أما إذا اضطر إلى الصلاة فيها كخوف برد، أو عدم توفر محل [ ص: 100 ] آخر، جازت بلا كراهة، ولا إعادة عليه [24] ، فكل أرض مصلى للمسلمين (إلا ما تيقنا نجاسته) [25] ، ( لقول النبي صلى الله عليه وسلم : وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل. ) [26] ولقد أجاز المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، استئجار الكنائس للصلاة، ولكن أوصى بتجنب استقبال التماثيل، فإن لم يمكن فإنها تستر بحائل إذا كانت باتجاه القبلة [27] وهنا أهيب بالمسلمين أن يوفروا ما يحتاجون إليه من مساجد ليستغنوا عن معابد أهل الشرك، وأن يبذلوا في سبيل ذلك ما يقدرون عليه. وأنبه إلى أن معابد أهل الكفر يحرم إطلاق (بيت الله) عليها بالإجماع.

وأما الصلاة في المقابر فقد نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أن المقابر ليست بموضوع للصلاة، وأما الصلاة على الثلـج فقد صـح عـن ابن عمر أنه صلى عليه [28] [ ص: 101 ]

المسألة الثالثة: الجمع للحاجة

لا أقصد به جمع السفر، أو المطر، أو المرض، وإنما الجمع الذي يرفع الحرج والمشقة في غير الأعذار السابقة.

فمثلا هـناك بعض البلاد يتأخر فيها غياب الشفق إلى ما بعد منتصف الليل في بعض أيام السنة، وهناك بلاد يطول فيها بعض أشهر السنة، ويقصـر الليل إلى أربـع سـاعـات، وهنـاك الموظف والطـالب الذي لا يتمكن من أداء الصلوات في أوقاتها لتتابع العمل وضيق الوقت المخصص للراحة، وهناك الشيخ العجوز والصبي.

فجميع هـؤلاء يجدون حرجا وعسرا ومشقة في أداء بعض الصلوات في أوقاتها المحددة شرعا، وخاصة أنهم في بلاد غير إسلامية، لا تراعي شعور المسلم في ذلك ولا تقيم لعبادته وزنا ولا اعتبارا [29] فهل يجب على من يغيب الشفق عنده بعد منتصف الليل، أن ينتظر وقت العشاء ليؤديها في وقتها، وهو ملتزم في صبيحة ذلك اليوم بعمل؟ مع احتياجه للنوم والراحة؟

وهل يجب على من ليله أربع ساعات أن يؤدي ثلاث صلوات فيها مع هـجران النوم انتظارا للصلاة، وهو أيضا مرتبط بعمل، وكل الأعمال [ ص: 102 ] تتطلـب ذهنا صافيا، وبدنا معافى، وهـذا بـدوره متـوقـف علـى مـدى ما يحصل عليه الإنسان من راحة وسبات، أم أن هـناك رخصة يمكن أن يلجأ إليها المسلم عند الحرج والمشقة، باعتبار (أن المشقة تجلب التيسير ) ، وأن الحرج مرفوع في ديننا لقوله تعالى: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (الحج: 78) ، وأن الأمر إذا ضاق اتسع؟

انعقد الإجماع على أنه لا يجوز في الحضر أن تصلى الصلاتان معا في وقت واحد لغير عذر [30] . ثم اختلفوا في هـذه الأعذار.

فاتفقوا على أن الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم في وقت الظهر بعرفة ، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير في وقت العشاء بمزدلفة ، سنة للحجاج، وعلى ذلك اقتصر الحنفية [31] وجوز المالكية الجمع للمقيم بسبب المطر، والطين، والمرض، رخصة توسعة بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء [32] وجوزه الشافعية بسبب المطر الذي يبل الثياب، وذهب جماعة منهم إلى جوازه بسبب المرض، والطين، والخوف [33] [ ص: 103 ]

وزاد الحنابلة في رواية: الثلج، والبرد، والريح الشديد البارد، والمرضع، والمستحاضة، وما في معناها، والمعذور والعاجز عن الطهارة لكل صلاة، وعن معرفة الوقت، ولمن خاف على نفسه، أو ماله، أو عرضه، ولمن خاف ضررا يلحقه في معيشته بترك الجمع، وقالوا: يفعل الأرفق به، من تأخير الأولى إلى وقت الثانية أو تقديم الثانية إليها [34] وليس هـناك -فيما وقفت عليه- أدلة صحيحة صريحة تدل على جواز الجمع لكل عذر مما ذكره الحنابلة.

‎‎ قال الإمام الشافعي : (والجمع في المطر رخصة لعذر، وإن كان عذر غيره لم يجمع فيه؛ لأن العذر في غيره خاص وذلك كالمرض والخوف، وما أشبهه، وقد كانت أمراض وخوف فلم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع. والعذر بالمطر عام، ويجمع بالسفر للخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا رخصة في الجمع إلا حيث رخص النبي) [35] ولكن يمكن أن يستدل للحنابلة (الذين هـم أوسع المذاهب الأربعة في الجمع) ، بما رواه مسلم وغيره، ( عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة ، من غير خوف ولا مطر ) . [ ص: 104 ] ‎‎

( قيل لابن عباس : ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته ) [36] وهو مروي أيضا عن ابن مسعود من طريق ضعيف كما قال الهيثمي ، ولكن خالفه الشوكاني وصحح تلك الرواية [37] فدل الحديث على جواز الجمع الحقيقي، بشرط تحقق الحرج والمشقة عند عدم الجمع، لقوله: (أراد أن لا يحرج أمته) .

ومن هـذا الحديث استنتج الجمهور جواز الجمع للمرض وما في معناه. وقالوا: (إن مشقة المرض فيه أشد من المطر) [38] قلت: فإذا جاز الجمع بسبب المرض لما في الصلاة بوقتها معه من المشقة، جاز بأي عذر يترتب على ترك الجمع ضيق وحرج لا يحتمل، ويشترط ألا يتخذ ذلك عادة، وألا يتوسع فيه.

وممن قـال بهذا: ربيعـة ، وابن المنـذر ، وأشهـب ، وابن سيـرين ، وعبد الملك من أصحاب مالك، والظاهرية [39] . وبه قـال الشيـخ محمـد أبو زهرة [40] ، والشيخ يوسف القرضاوي ، الذي يرى جواز (الجمع بين الصلاتين في حالات نادرة، وعلى قلة، لرفع الحرج والمشقة) [41] [ ص: 105 ] ‎‎

وبالنسبة لمن يتأخر عندهم غياب الشفق، أو يقصر ليلهم، فليأت من الصلوات في أوقاتها ما يقدر عليه [42] ، فإن غلبه النعاس فنام وفاتته الصلاة فليصل ما فاته عنـد استيقاظـه - فإنه ليس فـي النـوم تفريـط- على الترتيب.

وأما من وجد مشقة معتبرة في انتظار الصلاة، وخاف إن نام ألا يقوم للصلاة، وذلك يعرف بالعادة، فهناك رواية عند الحنابلة فقط بجواز الجمع بغلبة النعاس [43] وهنا يجب التنبيه إلى أمر جد خطير وهو: أن إساءة استعمال هـذه الرخصة التي ترفع المشقة والحرج، وذلك باتخاذها عادة لتحقيق غاية الراحة، وبالتوسع فيها من غير عذر معتبر، يبطل الصلاة.

فإن العلماء قد أجمعوا على أن الصلاة في غير وقتها بغير عذر شرعي باطلة، وكأنه لم يصلها؛ لأن الوقت لها شرط صحة.

المسألة الرابعة: صلاة الجمعة

‎‎ (أجمع العلماء على أن الجمعة واجبة، وفرض عين، وأن تركها إثم بلا خلاف) [44] ، لقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) (الجمعة: 9) . [ ص: 106 ] ‎‎

وجاء في صحيح مسلم ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لينتهين أقوام عن ودعهم (تركهم) الـجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين ) [45]

وقتـهـا

ذهب جمهور العلماء إلى أن وقت الجمعة هـو بعد الزوال [46] وإن وقعت قبله فلا تجوز، إلا عند أحمد وابن راهويه وعطاء لما رواه مسلم : ( كنا نصلي مع رسول الله الجمعة ثم نرجع فنريح نواضحنا (أي إبلنا) حين تزول الشمس ) .

قلت: ومجموع الأحاديث يدل على أنها تصح حال الزوال وقبله [47] وفي المغني والشرح [48] : المستحب إقامتها بعد الزوال للأدلة وفي ذلك خروج من الخلاف. [ ص: 107 ] ‎‎

قلت: إن اضطرت جماعة في دار الكفر إلى تقديمها على الزوال بدافع المشقة والظروف الحرجة فيمكن أن يعملوا بقول أحمد ومن معه، وهو قول ابن عباس والشوكاني [49] ، على ألا تتقدم عن الزوال بوقت طويل؛ لأن الحديث الذي استدل به أحمد يدل على أن الزوال يبدأ بعد الانتهاء من الخطبة والصلاة حسب ظاهره.

وإن لم تكن هـناك مشقة، أقيمت بعد الزوال وهو عمل السلف.

وقد أجاز الإمام مالك الخطبة قبل الزوال دون الصلاة [50] ‎‎ وأما عن آخر وقتها، فالجمهور على أنه آخر وقت الظهر.

ثالثا: هـل تصح الخطبة بغير العربية؟

‎‎ أجمع العلماء على أن الخطبة شرط [51] . فهل تصح بغير العربية؟

أقول بداية: إن توفر إمام يحسن إقامة الجمعة، لهو من فروض الكفايات، بحيث لو قصرت جماعة أثموا جميعا بالتقصير، لقوله تعالى: ( إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ) (التوبة: 39) .

وأما عن صحة الخطبة بغير العربية، فقد ذهب الجمهور إلى أنها [ ص: 108 ] تشترط بالعربية؛ لأنه ذكر مفروض، فشرط فيه العربية كالتشهد، وتكبيرة الإحرام، ولأنه فعـل النبي عليه الصلاة والسلام ، فقـد كـان لا يخطب إلا بالعربية.

وذهب أبو حنيفة إلى جوازها بغير العربية، بعذر وبغير عذر، وأجازها صاحبـاه بعـذر، وكـذا الحنابلة . وعندهـم روايـة توافـق رأي أبي حنيفة ولكنها مرجوحة في المذهب [52] وإذا قيل: ما فائدة الخطبة بالعربية إذا كان المستمعون لا يفهمونها؟

قيل: (فائدتها العلم بالوعظ من حيث الجملة، قاله القاضي حسين من الشافعية ) [53] قلت: وما فائدة العلم بالوعـظ الإجمالي مادام المستمـع لا يعقـل ولا يدري ما يقال له؟ وهل الخطبة بالعربية مقصودة لذاتها حتى يقال بأنها لا تصح بغيرها، وإن كان القوم لا يفهمون منها شيئا؟ أم لما تحويه من تعليم وتوعية؟

وللخروج من الخلاف، وليطمئن كل مسلم إلى أن صلاته صحيحة، يمكن إتباع إحدى الطريقتين الآتيتين: [ ص: 109 ]

الأولى: أن يأتي الخطيب بأركان الخطبة -التي قال بها الموجبون للعربية- بالعربية، ثم يأتي بالوعظ بلغة السامعين للحاجة والعذر.

والأركان هـي: الابتداء بحمد الله، قراءة آية أو أكثر من القرآن، الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الوصية بتقوى الله، والدعاء للمسلمين.

الثانية: أن تلقى الخطبة بالعربية ثم تترجم، سواء في أثنائها، أم بعد الانتهاء من صلاة الجمعـة، سـواء من قبـل الخطيب نفسـه، أم مـن آخـر يقوم مقامه.

ونستطيع أن نقول: إنه يجوز إقامة الخطبة بغير العربية إن كان هـناك عذر وحاجة وإلا فلا، مع مراعاة قراءة الآيات كما أنزلت ثم تترجم [54] ويستحب في الخطبة أن تكون قصيرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه. ) [55] ، أي دليل وعلامة عليه، ( ولما رواه جابر بن سمرة : أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قصدا وكذلك خطبته ) [56] ويجب لها الإنصات على قول الجمهور ( لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي [ ص: 110 ] يقول: أنصت ليست له جمعة ) [57] . أي بالقياس على غيره الصامت، ولكن صلاة من تكلم صحيحة بالإجماع [58] . ولا يشترط لها أن تكون في المسجد [59] . فلو أقيمت في أماكن عامة أو ساحات صحت، وكذا في معابد أهل الكفر للضرورة [60] ويستحب في خطيب الجمعة أن يكون متخصصا بدراسة الفقه والفكر الإسلاميين، وأن يكون ملما بثقافة القوم ومشكلاتهم المتنوعة، من أخلاقية، واجتماعية، واقتصادية، وتربوية، وغير ذلك، ليكون أقدر على طرح الحلول ومعالجتها من وجهة نظر إسلامية.

وأن يتطرق إلى المواضيع التي تهم حديثي العهد بالإسلام، من عقيدة، وعبادة، وتركيز على عالمية الإسلام، وخلوده وصلاحه.

وأن يعرفهم بموقف الإسلام من الحركات المنتشرة في بلاد الكفر ليكون المسلم على بينة منها. وأن يشعرهم بأن لهم إخوة من ورائهم يهتمون بمشاكلهم، ويفكرون بحاضرهم ومستقبلهم. وأن يبتعد عن الخلافيات قدر الإمكان، وأن يراعي أوقات المصلين. [ ص: 111 ]

خامسا: فيمن يعذر بتركها

‎‎ يعذر بترك الجمعة: المرأة، والصبي، والمسافر، والمريض الذي يشق عليه حضورها، وأيام الوحل والمطر الذي يبل الثياب، والريح الشديدة، والحر والبرد الشديدين، والزمن، والأعمى الذي ليس له قائد، ومن له مريض يخاف ضياعه؛ لأن حق المسلم آكد من فرض الجمعة، ومن بحضرة طعام وهو محتاج إليه، والعريان، والذي يخاف من ظالم على نفسه أو ماله، ومن هـو بعيد عن مكان إقامتها، بحيث لو حضر لشق عليه الأمر [61] .. ولا يدخل ضمن الأعذار طلاب العلم في تلك الديار، ولو اقتضت بعض المـواد الدراسيـة حضـوره؛ لأن الجمعـة من العبـادات التي لا تتكرر، ولا تقع إلا مرة في الأسبوع، فوجب تداركها، وعلى الطالب أن يهيء أحواله للمحافظة عليها في وقتها.

وأجمع أهل العلم على أن من فاتته الجمعة لزمه الظهر [62] . وذهب أكثر العلماء إلى أنه إن صلى أصحاب الأعذار قبل صلاة الإمام فلهم ذلك، ولهم أن يصلوا الظهر جماعة. [ ص: 112 ]

المسألة الخامسة: الجنازة وبعض أحكامها:

أولا: حكم غسل الميت

أجمع الفقهاء على وجوب غسل الميت على الأحياء [63] ، من حيث الجملة.. فإن لـم يوجـد الغاسـل المسلـم، فهـل يصـح غسـل الكافـر للميت المسلم؟

ذهب الجمهور إلى جواز غسل المرأة الكتابية لزوجها المسلم، وغسل الرجل لزوجته الكتابية، ونص الشافعي على أن غسل الكافر للمسلم صحيح، ولا يجب على المسلمين إعادته، وبه قال العراقيون [64] ؛ لأن الغسل لا يحتاج إلى نية الحي هـنا.

قلت: لم يرد نهي عن ذلك، وغاية ما في الأمر أن الكافر قد يطلع على عيب المسلم أثناء غسله، فلا يؤمن من جانبه أن يشهر به، ويظهره على رءوس الناس، فأما إذا وجد المسلم ابتداء فلا يغسله غيره.

ثانيا: حكم الصلاة عليه

أجمع الفقهاء على أن الصلاة على الميت المسلم فرض كفاية [65] ‎ ولو حدث أن منع أولياء الميت من المسلمين من الصلاة عليه، وجب [ ص: 113 ] عليهم وجوبا كفائيا أن يصلوا على قبره، فقد ثبت في الصحيـح أن النبي صلى الله عليه وسلم : صلى على ميت وهو في قبره [66] ، ولم ينبشه.

وأما إن تركوا الصلاة عليه عمدا فيأثموا جميعا، للإجماع السابق.

ثالثا: هـل يصح الدفن في التابوت؟

أجمع الفقهاء على أن الدفـن في التابوت مكروه [67] ، ولا يستعمـل إلا في حالة العذر فقط [68] . واعتمدوا في ذلك على أنه لم يصح أن أحدا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو أن النبي نفسه قد دفن في تابوت، بل كانوا يوضعـون علـى التـراب، ولـم يصـح أن النبـي صلى الله عليه وسلم رخـص فيـه أيضا أو منع منه.

وقد أجاز الفقهاء اتخاذ التابوت إذا كانت التربة رخوة وغير متماسكة، أو كان جسد الميت مهترئا بالاحتراق، أو مقطعا، أو أشلاء بحيث لا يضبطه إلا الصندوق.

وقالوا: والسنة أن يفترش في التابوت التراب [69] وعليه فمن أجبرته سلطات بلاده [70] ، على أن يضع متوفاه في [ ص: 114 ] صندوق خشبي أو حديدي، فلا شيء في ذلك -إن شاء الله تعالى- للعذر، وإلا فلا يفعله.

رابعا: هـل يصح دفن مسلم في مقابر الكفار؟

اتفق الفقهاء على أنه لا يدفن مسلم بمقابر الكفار، ولا كافر في مقابـر المسلمين، وإذا دفـن أحدهمـا فـي مقبـرة الآخـر نبش وجـوبـا ما لم يتغير [71] ؛ لأن الكفار يعذبون في قبورهم، والمسلم يتأذى بمجاورتهم.

فإذا لم تكن في بعض البلاد التي يسكنها مسلمون مقابر خاصة بهم، فإنه ينقل وجوبا [72] إلى بلاد المسلمين، إن أمكن ذلك ماديا وسمحت سلطات بلاد المسلمين، ولم يخف تغير جثة الميت، وإلا جاز دفنـه فـي مقابـر الكفـار على أن يخصص للمسلمين جـانب منها لهم، لا يشاركهم فيه غيرهم. فإن لم يمكن جاز دفنه للضرورة، وبه أفتى مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي [73] . واقترح أحد أعضاء المجمع [74] أن تراعى عند دفنه في مقابر الكفار درجات الكفر، [ ص: 115 ] فمقابر النصارى عند الضرورة أولى من مقابر اليهود ، ومقابر اليهود أولى من مقابر الوثنيين والملحدين، وهكذا.

خامسا: هـل يصح أن يحمل كافر في جنازة مسلم؟

لم يرد نهي في ذلك، والأولى ألا يسمح بذلك؛ لأنها قربة من القرب العظيمة، إلا إذا احتيج لذلك قياسا على قول الشافعي في جواز غسل الكفار للميت المسلم.

سادسا: الصلاة على الغائب

لو أن مسلما بدار الكفر توفي له مسلم قريب، أم صاحب، أم غير ذلك (في بلد آخر) فهل يصح أن يصلي عليه صلاة الغائب ويصلي معه المسلمون؟

ذهب الجمهور إلى جواز ذلك، مستدلين بصلاة النبي عليه الصلاة والسلام على النجاشي ومعه المسلمون [75] . وقالوا: لا دليل على أن ذلك خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام .

وذهب الحنفية والمالكية إلى أنها لا تشرع.

‎‎ وقال الخطابي : لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه [76] [ ص: 116 ] ‎‎

وقال العيني : (إذا مات المسلم في بلد من البلدان وقد قضى حقه من الصلاة عليه، فإنه لا يصلي عليه من كان ببلد آخر غائبا عنه، فإن علم أنه لم يصل عليه لعائق أو مانـع عـذر، كـان السنـة أن يصلى عليـه ولا يترك ذلك لبعد المسافة، فإذا صلوا عليه استقبلوا القبلة لا جهة بلد الميت) [77] قلت: والراجح هـو قول الجمهور، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم الدال على مشروعيتها، وما أضيف من قيود على جوازها لا يصح، إذ لو كان الأمر كما قالوا لما أخره النبي عليه الصلاة والسلام ولبينه للناس.

سابعا: في بعض أحكام الميت الكافر ومدى علاقة المسلم بها

‎‎ وصورة هـذه الجزئية: لو توفي كافر وهو جار لمسلم أو قريب له.. فهـل يجب عليـه أن يغسلـه ويكفنه، أم هـل يجـوز ذلك ويصـح منـه؟ وما حكم تشييع جنازته؟ وتعزية أهله؟

أجمع الفقهاء على أنه تحرم الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة، لكفره [78] ؛ ولأنه لا تقبل فيه شفاعة ولا يستجاب فيه دعاء، وقد نهينا عن الاستغفار له،

لقوله تعالى: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ) (التوبة: 84) . [ ص: 117 ] ‎‎

والذي نطمئن إليه، أن الكافر البعيد إذا لم يكن له من يقوم بأمره من الكفار، للمسلمين غسله وتكفينه، ودفنه، ومواراته.. أما الكافر القـريب، فللمسلـم غسـلـه وتكفينـه ودفنـه، وجـد مـن يقـوم بذلك أو لم يوجد، من باب صلة الرحم، ومراعاة لمشاعر القرابة، إذ لا نص يمنع من ذلك. وخاصة إذا كان مسالما غير حربي، بل لقد صح أن عليا غسل أباه ودفنه بإذن من النبي [79] عليه الصلاة والسلام .. أما الغريب فالأولى والأسلم للمسلم أن ينأى عن ذلك، إلا إذا كانت هـناك مصلحة شرعية، أو لم يكن من يقوم من الكفار بذلك، احتراما لإنسانيته.

فقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام قد كفن عبد الله بن أبي ابن سلول (رأس الكفر والنفاق) ، بناء على طلب ولده عبد الله [80] قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك تطييبا لقلب ولده، وإكراما له (وهو صحابي) .

أما اتباع جنازة غير المسلم، فإن كان قريبا وليس له من يقوم فيه، اتفقوا على أن للمسلم تشييع جنازته واتباعها.

وقال الحنابلة: يركب المسلم دابته ويسير أمامه [81] [ ص: 118 ] ‎‎

قلت: إذا صـح القـول بـه في دار الإسـلام -فيمـا إذا سلمنـا بـه- فلا يصح أن يقولوا به في دار الكفر، حيث إن المسلمين هـناك قليلون مستضعفون، وقد يصيبهم من جراء ذلك ضرر.

وقد قال ابن تيمية : (لو أن مسلما بدار حرب، أو بدار كفر غير حرب، لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر. بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هـديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة) [82] . أما إذا لم يترتب على ذلك ضرر فيتعين.

" وقال ابن عباس : وما عليه لو اتبعها " [83] فإذا كان في اتباع جنائزهم مصلحة دينية، أو درء مفسدة، فلا شك في جوازه، سواء أكان الميت قريبا أم بعيدا، ويسلك المسلم عندئذ في تشييعها من حيث المشي أمامها أم خلفها ما يراه مناسبا.

أما إذا لم يكن قريبا، ولم تكن هـناك مصلحة دينية مرجوة، أو دفع ضرر عن نفسه أو ماله، أو عياله، فذهب الحنفية والشافعية إلى صحة اتباع المسلم لجنازة الكافر [84] ، وذهب المالكية والحنابلة إلى خلاف ذلك. [ ص: 119 ]

ويمكن أن يعزي أهله على ما أجازه الجمهور [85] . واستحبوا أن يقال في تعزية المسلم بالكافر: (أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك) .

وفي تعزية الكافر بالمسلم: (أحسن الله عزاءك وغفر لميتك) .

وفي تعزية الكافر بالكافر: (أخلف الله عليك) [86]

ثامنا: القيام لجنازة غير المسلم

أما القيام لجنازة الكافر، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام لجنازة يهودي مرت به حتى توارت، وقام معه أصحابه.

فقال الصحابة: يا رسول الله! إنها يهودية. فقال: ( إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا ) . وفي رواية أخرى: ( أليست نفسا ) [87] قال بعض السلف: يجب القيام للجنازة إذا مرت.

وقال القرطبي : (ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الموت فزع) ، أي يفزع منه، إشارة إلى استعظامه.. ومقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت، لما يشعر ذلك من التساهل بأمر الموت. فمن ثم يستوي فيه كون الميت مسلما أو غير مسلم؟) [ ص: 120 ] ‎‎

وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها، ويضطرب، ولا يظهر منه عدم الاحتفال واللامبالاة.

وذهب جماعة من العلماء [88] إلى أن القيام مستحب غير واجب.

وعند المالكية جائز لا واجب.

وهناك مسألة: إذا مات كافر فشهد عدل بأنه أسلم قبل موته، ولم يشهد غيره، فهل يحكم بشهادته في توريث المسلم ومنع الكافر؟ وهل تقبل شهادته في الصلاة عليه؟

قال النووي في المجموع: لا خلاف أنه لا يحكم بشهادته في توريث قريبه المسلم وحرمان قريبه الكافر.

(وأما في الصلاة عليه فوجهان) [89] رجح القاضي حسين من الشافعية عدم قبولها في الصلاة عليه [90] قلت: صح أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرسل أصحابه ليبلغ عنه القبائل والأصحاب في العقائد وغيرها.

وعليه فلا يصح أن يترك لمن شهد له مسلم عدل بأنه أسلم، للمخالفين ليجروا عليه ما يسمى (بمراسيم الدفن) على حسب دينهم. [ ص: 121 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية