الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الخامس: النكاح

‎‎المطلب الأول: حكم نكاح الكتابية في دار الكفر

‎‎ لقد أحل الله نكاح المحصنات من أهل الكتاب مطلقا، سواء كن في دار الإسلام أم في دار الكفر.

‎‎ قال ابن المنذر : ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك [1] [ ص: 138 ] ‎‎

وقد صح " عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ينكح المسلم النصرانية، ولا ينكح النصراني المسلمة " [2] وقول عمر هـذا أصح سندا من نهيه عن تزويجهن [3] والآية التي تحل للمسلمين نكاح المحصنات من أهل الكتاب هـي: ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) (المائدة: 5) .

والإحصان في كلام العرب وتصريف الشرع، مأخوذ من المنعة، ومنه الحصن، وهو مترتب بأربعة أشياء: الإسلام، والعفة، والنكاح، والحرية.

ويمتنع الإحصان أن يكون بمعنى الإسلام في هـذا الموضع؛ لأن الآية قد نصت على نساء أهل الكتاب ( من قبلكم )

ويمتنع أيضا أن يكون النكاح؛ لأن ذات الـزوج لا تحـل، فلم تبـق إلا الحرية، والعفة. فاللفظة تحتملهما.

وقد اختلف أهل العلم بحسب هـذا الاحتمال إلى فريقين:

الفريق الأول: وهم المذاهب الثلاثة الأوائل فقد قالوا: [ ص: 139 ] ‎‎

إن المراد بالآية الحرائر دون الإماء، وأجازوا نكاح كل كتابية حرة، عفيفة كانت أو فاجرة.

قال الطبري : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندنا قول من قال: عنى بقوله تعالى: ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) حرائر أهل الكتاب... فنكاحهن حل للمؤمنين، كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة، ذمية كانت أو حربية) [4] ‎‎ وقال الحنفية : (وحل تزويج الكتابية العفيفة عن الزنا، بيانا للنـدب لا أن العفة فيهن شرط) [5] الفريق الثاني: ذهب إلى أن المراد بـ (المحصنات) العفيفات، وحرموا نكاح البغايا من الكتابيات.

وهو قول عمر ، وابن عباس ، وابن مسعود ، ومجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، والثوري ، والسدي ، والحسن ، والنخعي ، وهو قول الحنابلة ، وابن كثير ، والشوكاني ، والقاسمي [6] ، وجماعة من المعاصرين [7] [ ص: 140 ]

ويترجح لدي القول الأخير، وهو أن المراد بالمحصنات: العفيفات، لعدة أدلة:

أولا: لأن الله تعالى أباح لمن لم يجد الطول (اليسار والغنى) ، أن ينكح الأمة المؤمنة المحصنة، بقوله: ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات )

، ثم قيد سبحانه تلك الفتيات المؤمنات بقوله: ( محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ) (النساء: 25) .

ومعنى الإحصان هـنا العفة، إذ غير ذلك من معاني الإحصان بعيد. والمسافحات هـنا: الزانيات اللواتي هـن سوق للزنا.

ثانيا: أن الله تعالى شنع على ناكحي الزانيـات بقولـه: ( والزانيـة لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) (النور: 3) .

حتى إن ثلة من العلماء ذهبـوا إلى القـول بحرمـة نكـاح الزانيـة ولو مسلمة، قبل إعلان توبتها. فكيف إذا كانت تلك المومس الفاجرة من أهل الكتاب؟

ثالثا: صح أن حذيفة تزوج يهودية، فكتب إليه عمر أن خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة: إن كان حراما خليت سبيلها. فكتب إليه [ ص: 141 ] عمر: إني لا أزعم أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات (الفاجرات) منهن [8] رابعا: أن الله سبحانه وتعالى ذكر الطيبات في المطاعم، والطيبات في المناكح في الآية (المائدة: 5) . والزانية خبيثة بنص القرآن.

ويمكن القول: إنه على الرغم من أن إجماع الأمة قد تم على حل الكتابية من حيث الجملة، إلا أن الإجماع أيضا قد وقع على أن نكاح المسلمة أفضل بكثير من نكاح الكتابية، بل هـي أولى لتمام الألفة من كل وجه، إذ أنها تشاركه عقيدته، وفكره، ومنهجه، فتعينه على طاعة ربه، تذكره إذا نسي، وتشحذ هـمته إذا قصر، وتخوفه بالله إذا هـم بمعصية، وتكون له نعم الشريك في إعداد الجيل، فإذا بنى أكملت وحسنت، وإذا غاب عن بيته اطمأن له ولأسرته، وقامت هـي بالمهمة كاملة.

وفي أفضلية نكاح المسلمة يقول الله تعالى: ( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) (البقرة: 221) .

ويقول: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) (التوبة: 71) .

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : (فاظفر بذات الدين تربت يداك) [9] [ ص: 142 ]

ولن نجد غالبا امرأة غير مسلمة ملتزمة، تستشعر ( قول النبي صلى الله عليه وسلم : والمرأة راعية في بين بعلها وولده، وهي مسئولة عنهم. ) [10] والراعي هـو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما هـو تحت نظره.. وهل تستطيع الكتابية ولو أمينة أن تصلح ما تقدم عليه، وفق معايير الشرع الإسلامي؟

ومن هـنا نهى كثير من العلماء عن الزواج بالكتابيات، " لئلا يزهد الناس في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني " [11] وهذه الكراهة أساسها اختلاف الدين، لما يترتب عليه من ضياع دين الأولاد وأخلاقهم، ولما تقيم من شعائرها الدينية أمامهم، ثم إنها تشرب الخمر وتتغذى بالخنزير، وتغذي ولدها من لبنها، ويقبلها زوجها ويضاجعها، وهي على ما تقدم، بالإضافة إلى الحيف الذي يقع على المسلمات في تلك الديار من الإعراض عنهن، والإقبال على غيرهن.

فإذا كان الزواج من الكتابية وهي تحت سلطاننا لا يخلو من مفاسد في الغالب، فبديهي أن الزواج بها في بلاد الكفر أشد خطرا وأكثر ضررا.

ويزيد الوضع تفاقما وفاسدا، من جراء الزواج من كتابيات في دار المخالفين، انشغال الأب طوال يومه، وبعده عن ذريته الضعفاء، وبالتالي تتولى الأم الكتابية القيام بتربيتهم ومسئولياتهم، وعندئذ ماذا سننظر من ذلك النشء؟ [ ص: 143 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية