المبحث الثالث: من أحكام العبادات
المطلب الأول: الطهارة
يحتوي هـذا المطلب على ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: هـل الكافر طاهر الذات أم نجس الذات؟
الفرع الأول: هـل الكافر نجس؟
الأصل في ذلك قوله تعالى: ( إنما المشركون نجس ) (التوبة: 28) .
فما المراد بالشرك؟ وما المراد بالنجاسة هـنا؟
اختلف الفقهاء في المشرك على فريقين:
الأول: وهم الجمهور، قالوا: المراد بالمشرك في الآية هـو: كل عابد وثن أو صنم. قال الإمام مالك : ولكن يقاس عليه جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم.
الثاني: وهو مذهب الشافعي ، أن الآية عامة في جميع الكفار، وهو قول ابن عمر وجابر بن عبد الله من الصحابة رضوان الله عليهم، ونصره ابن حزم الظاهري [1] [ ص: 79 ]
وأما النجاسة، فقد ذهبت جماهير العلماء إلى أن المقصود بقوله تعالى: (نجس) ، إنما هـي النجاسة المعنوية، أي نجس في الاعتقاد، والدين، أو أنهم أشرار خبثاء، أو هـي من باب التشبيه البليغ. [2] وذهب الإمام مالك [3] ، والرازي [4] ، والألوسي [5] ، وأهل الظاهر [6] ، إلى أن الكافر (كل كافر) نجس العين.
وأرى أن ما ذهب إليه الجمهور هـو الراجح، لما يلي:
أولا: إباحة الله نكاح الكتابيات للمسلمين، ومعلوم أن ملامستهن وعرقهن لا يسلم منه أزواجهن، وكذا أثاث المنزل ولباس الزوج وغيره. ومع ذلك لم يوجب الشرع من غسل إلا ما أوجبه من غسل من كانت تحته مسلمة.
ثانيا: إباحة طعام أهل الكفر قاطبة إلا الذبائح، فإنها مقتصرة على أهل الكتاب، ومعلوم أن الطعام لا يسلم من مسهم ومعالجتهم إياه، فلو كانت أعيانهم نجسة حسية للزم منه أن ينجس كل ما يلمسونه، ولاستحال طعامهم إلى خبيث مستقذر فيحرم. [ ص: 80 ]
وقد قال تعالى: ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) (الأعراف: 157) .
وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل طعامهم، واستعمل أوانيهم، وقبل هـداياهم [7] ، ( فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه استعملوا مزادة امرأة مشركة. ) [8] فالحديث يدل على طهارة المشرك؛ لأن المرأة قد باشرت المزادة، وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه توضأ من بيت نصرانية، وقيل من جرة، بدل بيت [9] . وكذلك فإن حذيفة استسقى فسقاه مجوسي [10] ثالثا: لو صحت نجاستهم لاستفاض بين الصحابة نقل ذلك. والعادة في مثـل ذلك تقضـي بالاستفاضـة، فـإذا علمنا هـذا، قلت: لم يصح -مما وقفت عليه- عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته خبر واحد من القول بنجاسة المشركين، على المعنى الذي قال به الإمام مالك ومن وافقه.
نخلص من هـذا كله إلى أن الكافر طاهر العين والبدن (إن لم تكن عليه نجاسة حسية) ، نجس في الاعتقاد والدين، وقد ورد في ذلك إجماع [11] [ ص: 81 ]
ويترتب على ذلك:
أولا: طهـارة سـؤره، وهـو المـاء الذي يبقيـه الشـارب فـي الإنـاء، وجمعها (أسآر) .
ثانيا: طهارة ثيابه وما ينسجه.
الفرع الثاني: هـل على الكافر إذا أسلم من غسل؟
الأصل في ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم لثمامة بن أثال عندما أسلم أن يغتسل [12] وكذلك ( مـا رواه قيـس بن عاصـم عن أبيـه: أنـه أسلـم، فأمـره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر ) [13]
الفرع الثالث: هـل يجب الختان على من أسلم؟
الختان: هـو قطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة عند الرجال.
والحكمة في ذلك لئلا يجتمع فيها الوسخ، وليتمكن من الاستنزاه من البول [14] [ ص: 82 ]
حكمه: ذهب الجمهور إلى أن الختان سنة وليس بواجب، لعدم ورود دليل في ذلك يدل على وجوبه، وهو المشهور وعليه العمل [15] ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الفطرة [16] خمس: وذكر منها: الختان ) [17] وذهب الشافعي إلى القول بوجوبه على الرجال [18] والنساء [19] جميعا.
وذهب الحنابلة [20] إلى القول بوجوبه في حق الرجال دون النساء، فإنه في حقهن مكرمة، وقالوا: وهو من شعار المسلمين فكان واجبا.
واستدلوا بما ( روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لواثلة بن الأسقع لما أسلم: ألق عنك شعر الكفر، واختتن. ) [21] وسئل أحمد عن الكافر إذا أسلم: ترى له أن يطهر بالختان؟ قال: لابد له من ذلك. قلت (القول للسائل) : إن كان كبيرا؟ قال: أحب إلي أن يتطهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن إبراهيم عليه السلام اختتن بعد ثمانين سنة [22] [ ص: 83 ]
وهو قول الأوزاعي وربيعة الرأي ، واللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية [23]
المسألة الثانية: هـل الخمر طاهرة أم نجسة؟
الأصل في ذلك قوله تعالى: ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) (المائدة: 90) .
وقد فهم جمهور أهل العلم من قوله تعالى: (رجس) ، أن الخمر نجس حسا ومعنى [24] . وقالوا: رجس: أي نجس. وقال ابن عباس : أي سخط. وقال مجاهد : ما لا خير فيه. وقال ابن جبير : إثم. وقال الطبري : إثم ونتن. وقال ابن أسلم : عذاب وشر [25] وقال الألوسي : (ليس معقولا في معنى الآية إرادة الرجس بمعنى النجس، فالميسر مثلا هـو لعب القمار لا يعقل فيه نجاسة من طهارة) [26] قلت: بل أجمع الفقهاء على طهارة الميسر والأنصاب والأزلام [27] ، بالرغم من أن وصف (الرجس) عائد إلى الجميع، كما هـو السياق لا إلى الخمر وحده. [ ص: 84 ]
قال الصنعاني : (والحق أن الأصل في الأعيان الطهارة. وأن التحـريم لا يلازم النجاسة. فإن الحشيشة محرمة طاهرة، وكذا المخدرات والسموم القاتلة، ولا دليل على نجاستها. وأما النجاسة فيلازمها التحريم. فكل نجس محرم ولا عكس، وذلك لأن الحكم في النجاسة هـو المنع من ملابستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم. فإن لبس الحرير يحرم (على الرجال) وكذلك الذهب [28] ، وهما طاهران، ضرورة شرعية وإجماعا. فإذا عرفت هـذا فتحريم الخمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاسة، بل لابد من دليل آخر عليه وإلا بقينا على الأصل المتفق عليه من الطهارة، فمن ادعى خلافه فالدليل عليه، ولا دليل من الشريعة صريحا أصلا يدل على نجاستها، فتبقى على الأصل وهو الطهارة) [29] وبهذا الرأي قال ربيعة الرأي ، والمزني من أصحاب الشافعي [30] ، والشوكاني ومحمد صديق خان .
وأضاف الشيخ محمد رضا [31] : (وإنما كان يصح إلحاق الشرع بالنجاسات الحسية، لو ورد الأمر الصريح بغسل ما أصابه شيء من الخمر، ولم يرد حديث صحيح أو حسن في ذلك) . [ ص: 85 ]
وكان الصحابة يشربونها، ولا يسلمون من إصابة أيديهم وثيابهم بشيء منها، ولو كانت نجسة لأمروا بالتنزه عنها قبل تحريمها.. ولا يقال: (إنها صارت نجسة بالتحريم؛ لأن النجاسة لا تختلف باختلاف الحكم، فهي إذا طاهرة حسا وشرعا) [32] وأما الإمام النووي فلم يسلم لأدلة الجمهور في نجاستها، وقال: (وأقرب ما يقال ما ذكره الغزالي، أنه يحكم بنجاستها تغليظا وزجرا) [33] قلت: وهذا أيضا لا يسلم له، فالأزلام محرمة، ولم يقل أحد بنجاستها حتى ولو على سبيل التغليظ.
وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها فليس لنجاستها -والله أعلم- بل سدا للذرائع. فوجودها بصحبة شخص وقد ثمل واعتاد عليها سابقا، قد يكون سبيلا لشربها أو بيعها لعمق صلته وارتباطه بها، وكلاهما محرم بالإجماع.
أما الكحول: (وهو سائل عديم اللون، له رائحة خاصة، ينتج عن تخمر السكر والنشاء (وغير ذلك) ، وهو روح الخمر، والجمع كحولات) [34] حكمه: ما قيل في الخمر يقال فيه باعتباره خمرا؛ لأنه مسكر، وكل [ ص: 86 ] مسكر حرام. وقد أفتت لجنة الأزهر بطهارته، واعتبرت الأشياء التي تضاف إليه لا تنجس به [35] . وفي فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا : (الكحول طاهرة مطهرة، ولا وجه لتحريمها ولا يحرم منها شيء) [36] وعليه فيجوز التعطر بالعطور الإفرنجية التي تضاف إليها مادة الكحول (وهي نسبة قليلة) والادهان بها، باعتبارها طاهرة غير نجسة.
(وكذا بعض أنـواع الصـابون، والشامبـو، وكريم الحلاقـة، وغيرهـا، مما يدخل الكحول في صناعتها) [37] وجاز شراؤها وبيعها باعتبار أن نسبة الكحول المسكرة في العطور وغيرها تتحلل بالمواد الأخرى، ولا تظهر وتنقلب إلى حقيقة أخرى [38]
المسألة الثالثة: طهارة الكلب [39] :
للفقهاء في طهارة عين الكلب ونجاسته ثلاثة أقوال:
أولا: أنه نجس حتى شعره، وهذا قول الشافعي ، ومالك ، وأحمد في إحدى الراويتين عنه. [ ص: 87 ]
ثانيا: أنه طاهر حتى لعابه، وهو المشهور من قول مالك والمالكية .
ثالثا: أنه طاهر عدا ريقه ولعابه، وهذا هـو الصحيح من مذهب الحنفية ، والرواية الأخرى عن أحمد [40] قلت: وأولى الأقوال بالصواب، قول من قال: إنه طاهر عدا لعابه، فإنه نجـس دون سائـر بدنـه؛ وذلك لأن الأصـل فـي الأعيـان الطهـارة، فلا يجوز تنجيس شيء ولا تحريمه إلا بدليل.
ولم يأت ما يدل على نجاسة شيء من الكلب، إلا ما رواه أبو هـريرة ( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا ) [41] وزاد مسلم : ( أولاهن بالتراب. ) [42] فدل الحديث على نجاسة لعاب الكلب وفمه، إذ هـو محل استعمال النجاسات بحسب الأغلب، ومكان اللهاث [43] يتنجس باللعاب دون سائر بدنه، وأنه يغسل الإناء سبعا. وبوجوب غسل الإناء سبعا قول الجماهير [44] [ ص: 88 ]
وذهب أبو حنيفة إلى عدم وجوب العدد في إزالة شيء من النجاسات، وقال: إنما يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه منها. واستدل الحنفية بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الكلب يلغ في الإناء: ( يغسل ثلاثا أو خمسا أو سبعا ) . وقالوا: فدل الحديث على التخيير.
وأجيب بأن الحديث ضعيف [45] ورجح ابن رشد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه للندب والإرشاد مخافة أن يكون الكلب كلبا [46] ، يدخل على شارب سؤره أو مستعمل الإناء قبل غسله منه ضرر في جسمه، والنبي عليه الصلاة والسلام ينهى عما يضر الناس في دينهم ودنياهم، لا لنجاسة، إذ هـو محمول على الطهارة.
فإذا ولغ الكلب المأذون في اتخاذه في إناء فيه ماء أو طعام لم ينجس الماء ولا الطعام، ووجب أن يتوقى من شربه، أو أكله، أو استعمال الإناء قبل غسله مخافة الضرر [47] وقد ثبت طبيا أن لعابه يحوي جراثيم ضارة، تحتاج إلى مطهر قوي لإزالتها [48] . وهذا يقوي نوعا ما، ما ذهب إليه ابن رشد. [ ص: 89 ]