الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      الاجتهاد المقاصدي (حجيته .. ضوابطه .. مجالاته) [الجزء الثاني]

      الدكتور / نور الدين بن مختار الخادمي

      العمل على تأكيد الثوابت الإسلامية

      يحتم الاجتهاد المقاصدي المعاصر العمل على تأكيد الثوابت الإسلامية، وجعلها غير قابلة للتغيير والتعديل تحت ضغوط الواقع المعاصر وبموجب تغيراته وتقلباته .. وتلك الثوابت والأساسيات تتمثل في جملة القواطع الشرعية على نحو العقائد والعبادات والمقدرات وأصول الفضائل والمعاملات، وتتمثل في جملة أمور منهجية تتعلق بخصائص منهج التغيير الإسلامي وأسلوب التوعية الإسلامية، وبيان الأحكام، وإقامة وحي الله تعالى وتثبيته في الحياة الإنسانية .. ومن تلك القواطع المنهجية

      - الجمع بين الكليات والجزئيات معا

      ومفاده أن دراسة ما يستجد من أوضاع العصر ينبغي أن تكون واقعة ضمن دائرة شمولية وكلية وعامة، تأخذ بعين الاعتبار جملة [ ص: 148 ] الكليات والجزئيات الشرعية، حتى يكون الحكم المتوصل إليه متطابقا مع المقصود الشرعي أو قريبا منه . قال الشاطبي : (فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كلية فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كلية فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئية) [1] .. وإن أي معالجة لجزئية معينة بمعزل عما يلتصق بها من كليات وأصول، يعد مخلا بإحدى الثوابت الشرعية المقررة، ومفضيا إلى نوع من الاختلال والاضطراب في سلامة حصول الأفعال وآثارها على وفق ما أراد الشارع الحكيم.

      وهذا الذي وقعت وتقع فيه قديما وحديثا أفهام وتأويلات كثيرة خاطئة، لاقتصارها فيما تبحث عنه على آحاد الأدلة وجزئيات الشريعة وظواهر النصوص، مما يوقعها في سوء التقدير وخطأ الاجتهاد ومناقضة المقاصد ومعارضة الأصول.

      فالشريعة الإسلامية نظام متكامل ونسيج يكمل بعضه بعضا، ويفسر بعضه بعضا، ولذلك كان النظر المقاصدي قائما على هذا [ ص: 149 ] الاعتبار، إذ لا يمكن مراعاة مقصد معين ومصلحة جزئية إلا إذا كان غير عائد على ما هو أهم بالإبطال والتعطيل، وأن يكون خادما للنظام المقاصدي كله، ومن قبيل ذلك تبينت حقيقة تعارض المصالح والترجيح بينها، المبنية بالأساس على هذا الاعتبار .. فالمصلحة الخاصة لا يؤخذ بها إذا تعارضت مع المصلحة العامة، والمصلحة الظنية تتفاوت درجات ظنيتها بحسب تواتر الأدلة عليها، إذ واجب المجتهد إذا أراد الحكم على ظنية المقصد أو قطعيته، النظر في أكثر ما يمكن من الأدلة، وأن يكون نظره دائرا ضمن فهم متكامل ومتناسق لتلك الأدلة [2] .. والمقصد لا يعتبر إذا تركت وسيلته الشرعية المتعينة، وكذلك الوسيلة ترد إذا لم تؤد إلى مقصدها الشرعي المعلوم، وغير ذلك من المسالك الشرعية والمقاصدية، التي يتمظهر فيها بحق البعد التكاملي والطابع الشمولي لدراسة الظواهر والحوادث، وتحديد أحكامها على وفق المقاصد والضوابط الشرعية.

      ومن أوضح الأمثلة في ذلك مثال التأمين، الذي إذا أخذ على أنه معاملة مالية تحركها بعض الدوائر السياسية والفكرية لتمكين الغير من [ ص: 150 ] زيادة الهيمنة والاستغلال والإذلال للمسلمين والمساكين، وتقوية للمؤسسات الربوية وتعزيزها ونصرها على البنوك الإسلامية وعلى الاقتصاد الإسلامي والتحضر الإسلامي وغير ذلك، فإن التأمين إذا نظر إليه بهذا الاعتبار الذي راعى الإطار العام الذي يتنزل فيه في الوقت الراهن، فإنه يعد بلا مجال للشك أو التردد من المعاملات المحظورة، خدمة للمقاصد الشرعية المتمثلة - في سياقنا هذا - في وجوب إضعاف الاقتصاد الربوي التسلطي، وعدم الوقوع في فخ المتحاملين الساعين إلى تعزيز قوى الهيمنة الاستعمارية والابتزازية والمادية على حساب الأمم المنكوبة والجماهير المستضعفة.

      أما إذا أخذ التأمين على أنه خطة تعاونية تضامنية، تعزز قيم الخير والمعروف والإحسان، وتعمق روابط الأخوة والمحبة والألفة، وتصحح ما شوهته الحضارة المادية وما تركته من مظاهر الأنانية القاتلة والجشع الهالك والشح المطاع والهوى المتبع وغير ذلك، فإن التأمين بحسب تلك الاعتبارات يعد من أنبل الأعمال وأعظم المنجزات الإنسانية والاقتصادية والحضارية، التي تجلب ما ينفع البشرية في عاجلها وآجلها.

      إن هذا الضرب من الاجتهاد هو فعلا صميم الاجتهاد وصورته [ ص: 151 ] الحية، التي تؤكد خاصية التكامل والشمول والواقعية والخلود لشريعة الإسلام، وهو الذي يأتي على القضية المدروسة لينظر في حقيقتها وماهيتها، بواعثها وخفاياها، نتائجها ومآلاتها، ملابساتها وظروفها، خلفياتها السياسية والفكرية والأيديولوجية والعالمية .. وهو ليس غريبا عن منهج الاجتهاد منذ نشوئه وبعثه، وهو الذي يعبر عنه بتعبيرات شرعية متنوعة على نحو اعتبار الكلي مع جزئياته، وقصد المكلف، واعتبار المآل، وتحقيق المناط العام والخاص، ومناسبات النزول والورود، والعلم بالواقع، ومعرفة العصر وغير ذلك.

      والدعوة إلى جعل المقاصد إطارا شاملا لواقع العصر الحالي دون شذوذ أو استقلال عن المنظومة الشرعية، ليس سوى تأكيد لمبدأ اعتبار الجمع بين مراعاة المقاصد ككليات للمشكلات، والحوادث التي تمثل جزئيات وفروعا لتلك الكليات العامة [3]

      اعتماد التدرج والمرحلية والفقه الأولوياتي

      تعد هذه الخاصية من الثوابت المهمة في عملية الإصلاح والتغيير وتنزيل الأحكام، وهي ذات أصول ممتدة إلى العصر النبوي وعصر السلف .. وليس موضوع مناسبات النزول والنسخ وبعض مباحث [ ص: 152 ] التعارض والترجيح في الأخبار والمعاني وغير ذلك، إلا دليلا على تقرير هذا المبدأ العظيم، ووجوب الالتفات إليه في عملية تنزيل الأحكام، وإصلاح الناس، وتحقيق المقاصد. [4] وعصرنا في أشد الحاجة إلى طروحات ومناهج تعتمد تقديم الأهم على المهم، وترجيح الأصلح على الصالح، ودرء الأفسد على الفاسد، فعصرنا قد سادت فيه أنواع من الفساد الاعتقادي والمالي والاجتماعي والأخلاقي، وليس فيه من بد سوى باعتماد ما يراه المصلحون والمجتهدون طريقا أوليا في العلاج والتوجيه .. فترى مثلا حصول أفهام خاطئة عن الإسلام بموجب التحامل والاحتكاك بالحضارة المادية، أو بموجب اهتراء الناحية العقائدية وضعفها .. وتلك الأفهام تؤثر بلا شك في تطبيق بعض الأحكام وتنزيلها، بل في اعتقادها والتسليم بها أحيانا - والله المستعان - فإنه يتعين عند هذا الأمر بحث السبل المصححة لتلك الأفهام الخاطئة، حتى تعاد صياغة الشخصية الإسلامية التي ستتقبل تنفيذ ما أمرت به، وتتهيأ لقبوله واعتقاده .

      إن ما ورثه العالم الإسلامي من (الغير) في مجالات حياتية [ ص: 153 ] مختلفة، على نحو النظام الإداري والمالي والسياسي والتربوي والاقتصادي، وعلى الرغم من إيجابياته ومحاسنه، إن ذلك أثر على عقول كثيرة بقصد أو بغير قصد، [5] وهو يحتاج بصورة أكيدة وملحة إلى فقه أولوياتي مرحلي تدرجي، قصد الإصلاح والتحسين، وكي لا تصب المعالجـات والحلول دفعة واحدة، فالزمن نفسه جزء من العلاج [6] .. وما أصيب به المسلمون من تحامل أثر في البناء القانوني والاقتصادي والأخلاقي وغيره، لا يمكن أن يتغير بين عشية وضحاها.. وما تراه فئة إسلامية ضروريا ولازما، يراه غيرها جديرا بالتأخير والتريث حتى تتوفر ظروفه وأرضيته، وحتى يطبق على أحسن وجه، وحتى يحقق ما أراده الله تعالى من مقاصد وغايات .. وما يراه بعض العلماء في زمن ما مخلصا شرعيا، يراه غيرهم في زمن آخر مأزقا دينيا خطيرا يجب تركه، وهكذا تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من أنزعة.

      وما أردته في طرح هذه القطعية المنهجية ليس هو الإطناب في بيان طبيعتها وخصائصها وتطبيقاتها وصورها، وإنما هو تأكيد عليها عموما بما يتماشى والاختصار المفيد، وهي نفسها مما تخضع [ ص: 154 ] إلى الاعتبارات الميدانية العملية التي تتحدد كيفياتها وملامحها على وفق ما يراه أرباب الإصلاح وأهل الاجتهاد مناسبا وضروريا لزمانهم وعصرهم ومشكلات حياتهم.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية